المتابع لواقع الدول الغربية لا بد أن يلحظ أن الحرب بين روسيا وأوكرانيا أحدثت فوضى كبيرة على مستويات ربما لم تكن في الحسبان.
الفوضى جلية في الخطابين السياسي والإعلامي، وقد تحدثنا عن ذلك بإيجاز شديد في الأسابيع المنصرمة. والفوضى بادية للعيان في العمليات العسكرية والاصطفاف والتجييش والتسليح والأهداف المتوخاة.
في آخر لقاء بين ماكرون وشولتز زعيمي فرنسا وألمانيا، دعا الأخير صراحة إلى تخفيف لهجة الخطاب. لا أعلم ماذا كان القصد، لأن طلبا كهذا يبدو غريبا وعجيبا بعد أن طغى الرأي الواحد على السطح، وهو رأي حاد ومتطرف لا يقبل الرأي الآخر ويرفض حتى إجراء مناقشة محايدة.
جرت العادة أن يحتفل الغربيون وحلفاؤهم كل عام بذكرى الانتصار على النازية في الحرب العالمية الثانية - بالمناسبة كانت روسيا حليفة الغرب في هذه الحرب - لكن أي تحليل للخطاب الذي أرخ لهذه المناسبة والأخبار والتقارير والمقالات التي سطرها الإعلام؟ يظهر لي أن "النازية" هي التي انتصرت أخيرا بعد أكثر من سبعة عقود على هزيمتها.
لم تنتصر النازية عسكريا، بل كانت حاضرة خطابيا ويؤسفني القول وبصورة طاغية، وإن لم يكن الأمر كذلك، لماذا يتم إحضار هتلر، الزعيم النازي دون منازع، ومعه النازية فكرا ومفهوما، بهذه الكثافة والتأكيد أن أيديولوجيتها حية ترزق. المفارقة، أن كل طرف يتصور أن الآخر وأعماله وممارساته تجسيد للنازية.
وهذا الخطاب بالذات أدخل الروع والفزع في القلوب إلى درجة أن شعوبا مشهودا لها بالحياد في أعتى الظروف ومقاومة الاصطفاف رغم الضغوط، صارت جزءا من المعمعة والفوضى التي من العسر تفكيكها وإلقاء الضوء على كنهها.
دول كان الحياد نبراسها والمنطق والعقل والحوار والرأي الآخر منهجها صارت تدعو علانية إلى الاصطفاف والدخول في تحالفات عسكرية.
ها هما السويد وفنلندا تسعيان - وربما تتوسلان - للانضمام إلى حلف الناتو، ضاربتين بعرض الحائط عقودا من الحياد في أحلك الظروف التي مر بها الغرب في أزمنة الحرب الباردة.
مضى لي أكثر من عقدين في السويد، ولم ألحظ التوجه الظاهر صوب "العسكرة" والتدريب العسكري البادي للعيان والتركيز الحكومي والإعلامي على الجيش.
حتى سويسرا، التي يشار إليها بالبنان لهدوئها وحصافتها وحيادها المتين، تخلت عن كثير من القيم السامية التي كانت تحسدها عليها الأمم الأخرى، في مواجهة ما يخشاه الغرب أنه "نازية جديدة" متمثلة في التدخل الروسي في أوكرانيا، والروس بدورهم، ومنذ اليوم الأول للحرب هذه، يكررون أنهم يواجهون مدا "نازيا" أراد السوء بهم.
الفوضى في الخطاب لا تقتصر على مقالات الرأي مثلا، أو على تيار محدد في الإعلام. هناك شبه إجماع حيث يلتقي اليسار مع اليمين والاشتراكي مع الرأسمالي والديني مع اللاديني في تأطير لغة لم تكن مألوفة وما هي إلا اجترار للخطاب السياسي.
والخطاب السياسي الذي نقرأه وينقله الإعلام لنا، غالبا دون سياق يزيد في ظلامية المشهد. لذا، من العسر على المرء معرفة ماذا بالضبط تريده الأطراف المتصارعة عندما تتحدث عن "النصر" أو "الخسارة" في حرب يبدو أن لا منتصر فيها والكل خاسرون.
ولا نعرف ماذا يريده الغرب وهو يكدس الأسلحة بالمليارات في أوكرانيا وماذا يقصد بالقول إن روسيا، التي تجلس على أكثر ترسانة نووية فتكا في العالم، يجب أن تخسر.
فقط الولايات المتحدة وافقت على تقديم 40 مليار دولار لأوكرانيا، وأكثر من 30 مليارا منها تخصصها لتسليح هذا البلد، علما أن الميزانية العسكرية السنوية المعلنة لروسيا تبلغ 66 مليار دولار.
وكذلك لا نفهم ماذا بالضبط تريده روسيا من الغرب أو أوكرانيا كي توقف الحرب.
ما نستطيع الوصول إليه ومعرفته بيسر يتعلق بالخسائر والدمار، ولا سيما الذي يلحق أوكرانيا حيث تظهر الشاشات والصور أن مدنا كثيرة في هذا البلد المنكوب لم يبق فيها حجر على حجر، مع عشرة ملايين مهاجر في أقل تقدير من مجموع سكان تقديره 44 مليون نسمة.
والكل همه - كما يبدو - مخاطبة العواطف والمشاعر وليس العقل والمنطق حيث تتكرر الصور الثابتة والمتحركة على الشاشات وأحيانا مع تحذير للمتلقي أن درجة العنف والأعمال الوحشية قد تؤثر في أصحاب القلوب الضعيفة.
وصرنا حتى في السويد نخشى، ليس لأن الجيش الروسي سيدير وجهته صوبنا، بل للتلاعب الكبير بمشاعر الناس مما قد تخبئه الأيام ولارتفاع أسعار الوقود والطاقة والبضائع الأساسية وللتدريبات العسكرية المستمرة والطيران المنخفض - ولأول مرة - لسلاح الجو ونقل بعض هذه النشاطات في وقت الذروة من على شاشة التلفزيون.
وكل هذا، ومع الفوضى العارمة هذه، يغيب صوت العقل والحكمة والحوار. الكل يبحث عن نصر وتكديس السلاح واجترار خطاب يبث الرعب في الأنفس والتأكيد أن الحرب المدمرة هذه ستبقى معنا ليس عدة أيام أو أسابيع أو أشهر أخرى، بل أعواما أخرى.
الغرب والفوضى العارمة .. أين المخرج؟
مواضيع ذات صلة