: آخر تحديث

النساء العربيات وتكلفة العنف

54
54
57
مواضيع ذات صلة

مهما حاولنا التغاضي عن ظاهرة العنف ضد المرأة في العالم، فإننا لا نوفق في تجاوزها لأنها مسألة تحتاج إلى المواجهة والتفكير أكثر من الإهمال والتجاهل.
صحيح أنَّ النساء اقتحمن جميع مجالات الفعل والإنجاز والتميز، وأن العالم اليوم يعجُّ بالكفاءات النسائية الفاعلات، ولكن هذه الحقيقة ليست كاملة، إذ هناك نصف آخر من هذه الحقيقة يكشف عن معاناة النساء واستمرار الثقافة البطريكية وأيضاً تعرضهن للاستغلال الاقتصادي والتمييز على أساس النوع الاجتماعي.
الجيد أن كل العالم يمارس الصراحة أو جزءاً منها على الأقل وهو يقارب ظاهرة العنف المسلّط على النساء والفتيات. وبهدف مقاومة هذه الظاهرة فقد تمَّ التفكير في تخصيص حملة «16 يوماً من الحراك ضد العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي» وهي حملة تقام على مستوى أممي وبلدان كثيرة تبرمج أنشطة تسعى من خلالها إلى زيادة الوعي ومكافحة العنف ضد النساء والفتيات في العالم. وتستمر هذه الحملة التي انطلقت دولياً من أمس إلى العاشر من الشهر القادم تزامناً مع اليوم العالمي لحقوق الإنسان.
في هذه السنة تمت ملاحظة تنامي ظاهرة العنف الرقمي ضد الفتيات والنساء، حيث أبرزت دراسات عدة أن جائحة «كورونا» بما فرضته من حجر إجباري منذ تفشيها وفرض الإغلاقات العامة والقيود على الحركة في جميع أنحاء العالم، رفعت نسبة العنف ضد النساء والفتيات من حيث النوع والشدة بما في ذلك العنف عبر الإنترنت وبالأخص التحرش الرقمي.
وفي الحقيقة ليس العنف الرقمي فقط الذي عرف ارتفاعاً بل إن العنف في الفضاء الأسري أيضاً قد تضاعف في هذه الجائحة مرات ومرات، ووضعت دراسات عدة العنف الزوجي على رأس أنواع العنف الممارَسة.
وبناءً عليه فالذي يمكن استنتاجه هو أن المشكل في وجود العنف في حد ذاته وليس في مجالاته الواقعية أو الافتراضية. ذلك أن الواقعي يُلقي بظلاله على الافتراضي بوصفه امتداداً له حتى لكأنهما واحد لأن الفاعل واحد.
طبعاً بحكم عدم توفر التشريعات اللازمة لمواجهة العنف الرقمي وإدانته وتجريمه ربما يسهم ذلك في استسهال البعض تعمد الإساءة للنساء والفتيات في الفضاء الرقمي وانتهاكهن واعتبار الفضاء الرقمي فضاءً لا تشمله المحاسبة القانونية.
وفي الحقيقة فإن مقاومة العنف الرقمي تتطلب وضع تشريعات وآليات لتطبيق هذه التشريعات. ونعتقد أنه بهذه الطريقة فقط تتغير النظرة إلى الفضاء الافتراضي الذي يعدّه البعض مجالاً لفعل كل شيء ولاستباحة كل الممنوعات من دون أن يكون لأي طرف الحق في المحاسبة والمتابعة قانونياً.
فالتشريعات من المهم أن تشمل الافتراضي أيضاً لأن العقاب يشمل الفعل الذي اقترفه الشخص وليس أين اقترفه.
إن العنف في الفضاء الخاص أو العمومي أو الرقمي هو تعبير عن مظاهر العنف وتفرعاته الشاسعة، وكل هذا يساعدنا في تحديد حجم العنف وخطورته كخطوة ضرورية للانتقال إلى المرحلة الأساسية المتمثلة في فهم العنف وتحديد أسبابه.
الملاحَظ هو أن التحليل المهيمن على ظاهرة العنف القائم على النوع الاجتماعي ثقافي المقاربة والتفسيرات. ورغم كل الحملات الدولية والبرامج التي وضعتها الدول لمناهضة العنف ضد المرأة، فإنَّ ممارسة العنف لم تتراجع بقدر ما ازدادت. وهنا لا بد من المراجعة ومن النقد ومن وضع نقاط استفهام حول كيفية مقاربتنا لمسألة العنف القائم على النوع الاجتماعي.
لن نتقدم في ملف العنف ضد النساء قيد أنملة إلا إذا احتكمنا إلى النقد الذاتي، واعترفنا بوجود مَواطن خلل في كيفية مقاربتنا لهذه الظاهرة المكلفة جداً على مجتمعاتنا. ولعل توخي استراتيجية متعددة المقاربات تُولي الأهمية اللازمة للتحليل المادي للعنف يمكن أن تجعلنا نقترب من الخطة المثلى للمعالجة.
وفي هذا السياق نفترض أن اعتماد نهج تمكين المرأة اقتصادياً من شأنه أن يُحدث تغييرات نوعية مهمة. ذلك أن العنف هو اقتصادي في جزء وافر منه، وتمكين المرأة من الاستقلالية الاقتصادية هو أول خيط يمكن الإمساك به لدفع المساواة والمشاركة إلى حدود أرفع وأوسع. وكي تكون مراجعة المقاربات المعتمدة إلى حد الآن في خصوص مسألة المرأة والعنف في مجتمعاتنا العربية على أسس سليمة، من المهم القيام بدراسات علمية دقيقة حول تكلفة العنف القائم على النوع الاجتماعي وتحديداً تكلفته الاقتصادية. ذلك أنه لا توجد تكلفة واحدة للعنف المسلط على النساء؛ فهناك التكلفة النفسية والاجتماعية الثقافية وأيضاً الاقتصادية.
قد يكون التركيز في المرحلة الراهنة على التكلفة الاقتصادية من الاختيارات الصائبة لأن الوضع الاقتصادي العربي عموماً اليوم يحتاج إلى مشاركة الجنسين لإيجاد الحلول لمشكلات الفقر والبطالة والتنمية بشكل عام، إضافةً إلى أنه كلما تم تخفيض التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاقتصادي، فإن ذلك سينعكس آلياً وإيجابياً على واقع التكلفة النفسية والثقافية والاجتماعية. ونتوقع أن التركيز على التكلفة الاقتصادية سيضمن معالجة أكثر سرعة ونجاعة.
فهل تنخرط بلداننا جميعاً في تحديد التكلفة الاقتصادية للعنف القائم على النوع الاجتماعي؟
عندما ندرك حجم التكلفة ستتغير أشياء كثيرة، ولن نقبل بحجم الخسارة الكبرى للتكلفة التي نحن بصدد دفعها دون انتباه واضح ودقيق لذلك.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد