الهدف الاستراتيجي السامي للقيادات السياسية المصرية - عبد الناصر والسادات - منذ هزيمة يونيو (حزيران) 1967 بات هو استعادة الأراضي المصرية المحتلة ممثلة في شبه جزيرة سيناء. تحقيق ذلك وسط توازن للقوى مختل كان يستدعي أولاً إدراك الحدود التي يمكن الوصول إليها بعد زيادة القدرات العسكرية المصرية بعد تغيير طبيعة الجندي المصري وزيادة مهاراته؛ والحصول على أكبر قدر ممكن من التسليح الذي يسمح بتحقيق أكبر الخسائر الممكنة في الأفراد والمعدات؛ وكما جاء في أمر «القتال»، أن تقوم القوات المسلحة المصرية بتحرير الأراضي المصرية وفق مراحل متتابعة؛ ويضاف إلى ذلك كله الاستخدام الحصيف لسلاح النفط العربي وفق استراتيجية جديدة تقوم على الخفض التدريجي للإنتاج مع مقاطعة الدول المتطرفة في تأييد إسرائيل «الولايات المتحدة وهولندا». وثانياً تغيير البيئة السياسية والتفاوضية الإقليمية والدولية من خلال شبكات من العلاقات الدولية تساهم في تحرير الأرض، ولا تقف عقبة أمامه. وإذا كان الرئيس جمال عبد الناصر قد ساهم في ذلك بإعادة بناء القوات المسلحة بعد هزيمة ساحقة، والقيام بحرب استنزاف كافية لإعادة الثقة للجندي في قدراته العسكرية، ورفع ثمن الاحتلال بالنسبة لإسرائيل؛ فإن الرئيس السادات جعل من حرب أكتوبر (تشرين الأول) وتكاليفها بالنسبة لإسرائيل والولايات المتحدة، وما تلاها من مفاوضات تمهيداً لاستعادة الأرض مرة أخرى دون زيغ ولا ضباب.
وفي الواقع، فإن حرب يونيو 1967 لم تنته مع وقف إطلاق النار، فقبل أن ينتهي الشهر الأول بعد الهزيمة، فإن موقعة «رأس العش» التي تمكنت فيها قوات مصرية بقيت في سيناء على الشاطئ الشرقي لقناة السويس أمام مدينة بورسعيد، من وقف تقدم القوات الإسرائيلية وتهديد المدينة الباسلة. تدمير المدمرة الإسرائيلية «إيلات» بعد أشهر، والقيام بعمليات متقطعة شرق القناة شكّل فاتحة وتحضيراً لحرب الاستنزاف التي أصبحت موجعة للجانب الإسرائيلي خلال عامي 1969 و1970. تحملت مصر الكثير خلال هذه المرحلة؛ ولكن المساندة العربية التي نجمت عن «قمة الخرطوم» جعلت الصمود ممكناً والتحضير لما سوف يأتي متاحاً. الأدب الإسرائيلي المتاح الآن عن حرب أكتوبر يسجل أن واحداً من أخطاء إسرائيل الكبرى، أنها لم تقم بالاستيعاب والفهم الكافيين للتطور الذي جرى للقوات المسلحة المصرية خلال هذه الفترة. ظلت الصورة الثابتة في الذهن الإسرائيلي هي تلك التي نتجت من هزيمة حرب يونيو؛ كما أنها لم تتصور أن حجم المساندة والمشاركة العربية في الصمود سوف يكون تمهيداً لوقفة كبرى عنيدة في استخدام النفط ساعة الحرب.
قبل حرب أكتوبر بدأ الرئيس السادات في فتح الأبواب والجسور مع الولايات المتحدة، ولم يكن في ذلك خافياً عليه العلاقات الوثيقة للغاية بين إسرائيل وواشنطن، في وقت كانت فيه الأخيرة منشغلة بحرب فيتنام؛ والحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي. وخلال فترة الحرب تعمّقت الصلات المصرية - الأميركية بعد أن تعرّضت الولايات المتحدة أولاً للمفاجأة الاستراتيجية المصرية؛ وثانياً لتكلفة الحرب حينما بات على الولايات المتحدة تعويض إسرائيل عن خسائرها. ورغم أن الولايات المتحدة تحت إدارة نيكسون وفورد بتأثير من وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر أخذت باستراتيجية «الخطوة خطوة»، أي «المرحلية» في المضي قدماً في تحقيق السلام العربي - الإسرائيلي، مقترناً بالانسحاب الإسرائيلي من أراضٍ عربية محتلة، فإن النهج العربي كان عدم الزيغ عن الأهداف النهائية الخاصة باستعادة كامل التراب الوطني. وفي سبيل ذلك؛ كانت مصر مستعدة فور انتهاء الحرب بالذهاب إلى مؤتمر جنيف للسلام في الشرق الأوسط، وأكثر من ذلك الاستعداد لتمثيل سوريا في المفاوضات التي تلت ذلك، ومن خلاله جرت عمليات فصل القوات التي أجْلَت القوات الإسرائيلية عن غرب قناة السويس وما وراءها في 18 يناير (كانون الثاني) 1974، وأجزاء من الأراضي السورية سحبت القوات الإسرائيلية بعيداً عن دمشق في مايو (أيار) 1974. التشدد والتردد السوري فيما بعد لم يمنع الرئيس السادات من الدخول في مفاوضات جديدة للفصل بين القوات؛ لكي يتم الاتفاق الثاني في هذا الشأن في أول سبتمبر (أيلول) 1975، وبمقتضاه انسحبت إسرائيل من شرق قناة السويس أيضا، وبالقدر الذي يعطي الفرصة لمصر لفتح قناة السويس التي أغلقت منذ يونيو 1967، مرة أخرى للملاحة الدولية.
تحقيق ذلك من خلال تعاون مصري - أميركي جعل لمصر ثقلاً في واشنطن يكفي للتعامل مع الإدارة الجديدة للرئيس جيمي كارتر الذي كان متحمساً لعقد مؤتمر دولي لحل الصراع العربي - الإسرائيلي. كان معنى ذلك إعطاء «حق الفيتو» لكل من الاتحاد السوفياتي وسوريا ودول عربية أخرى على تحقيق الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المصرية المحتلة؛ انتظاراً لقبولها الانسحاب من الأراضي العربية الأخرى. المؤتمر كان يفتح باباً للمزايدة العربية على مصر من ناحية؛ ويضع القضية المصرية رهينة للحرب الباردة الدولية من ناحية أخرى. انتخاب الإسرائيليين حكومة يمينية بقيادة مناحيم بيجين جعل احتمال التشدد في مطالب الأطراف كافة حتمياً ومانعاً من عملية التحرير المطلوبة، بينما يدعو تماماً «للحظة ساداتية» تقوم على مفاجأة استراتيجية مكمّلة للمفاجأة الاستراتيجية الأولى في أكتوبر 1973. في الحقيقة، فإن زيارة الرئيس السادات للقدس في نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 كانت المفاجأة الدبلوماسية والسياسية المكمّلة للمفاجأة الأولى. كانت الحرب تزيد تكلفة الاحتلال على إسرائيل والولايات المتحدة، وكانت الزيارة ممثلة للدبلوماسية والسياسة في تحقيق المخرَج من «أزمة الشرق الأوسط» وتحقيق الانسحاب الإسرائيلي؛ وهو ما تحقق بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية.
إن حرب أكتوبر 1973 سوف تظل دائماً فخراً لجيل كامل من العرب، وسوف تتكشف فصول منها كل عام؛ وسوف يتحدث المصريون عن تفاصيلها عندما يجدون ضرورة لذلك. فلكل قول زمانه ومكانه؛ تحية وامتنان لكل أبطال الحرب، الشهداء منهم والأحياء.