باريس: صبيحة 9 آب/أغسطس من العام الماضي، فجعت فرنسا بمقتل 6 عاملين في الحقل الإنساني وسائقهم ومرشدهم السياحي النيجريين، بعملية إرهابية تبناها بعد شهر من وقوعها تنظيم "داعش"، في محمية معروفة باسم "كوريه" تقع على بعد 60 كيلومتراً جنوب شرقي نيامي؛ عاصمة النيجر. والستة؛ وكلهم فرنسيون، هم: 4 نساء ورجلان؛ كانوا قد وصلوا حديثاً إلى النيجر للانخراط في العمل الإنساني في إطار منظمتين غير حكوميتين هما "أكتد" و"إيمباكت". الستة؛ الذين كانت أعمارهم تتراوح بين 25 و31 عاماً، كانوا يريدون زيارة محمية الزرافات "كوريه" التي تضم آخر قطعان الزرافات في غرب أفريقيا، وقضاء أيام عدة للتعرف عليها، عندما هاجمهم 3 أشخاص مدججين بالسلاح ويتنقلون على دراجات نارية. وعمد هؤلاء إلى الإجهاز على المجموعة؛ بمن فيهم السائق والمرشد السياحي رمياً بالرصاص، فيما عمدوا إلى قتل شابة نحراً. بعد ذلك؛ قام الإرهابيون الثلاثة بإحراق السيارة رباعية الدفع "لاند روفر كرزيز" التي كانوا يتنقلون فيها.
وقال الكولونيل باسكال إياني، الناطق باسم هيئة الأركان الفرنسية، أمس، إنّ الجيش الفرنسي نجح في القضاء على أحد قتلة المجموعة الفرنسية. وجاء في بيان لهيئة الأركان، نقل إلى وكالة الصحافة الفرنسية، ما حرفيته: "قمنا أول من أمس في منطقة تيلابيري (غرب النيجر)، من خلال ضربة جوية، بتحييد المسؤول في (تنظيم داعش في الصحراء الكبرى)، سومانا بورا، أحد منفّذي عملية قتل 6 رعايا في محمية كوريه، في 9 آب/أغسطس 2020". وأضاف الناطق أنّ سومانا بورا عمد إلى "تصوير عملية الإعدام، ووفّر نشرها في وسائل الإعلام". ووفق المعلومات التي وزّعها الجيش الفرنسي، فإنّ القاتل كان يقود مجموعة من المقاتلين تنشط غرب النيجر؛ "أي قريباً من حدود مالي والمنطقة المسماة الحدود المثلثة: النيجر ومالي وبوركينا فاسو". وبحسب الجيش الفرنسي؛ فإنّ عملية القضاء على سومانا بورا جرت من خلال مسيّرة أصابته عندما كان يقود منفرداً دراجته النارية، مضيفاً أن العملية جرت بـ"التنسيق الوثيق مع سلطات النيجر". وعمد الجيش الفرنسي إلى إرسال دوريات للتأكّد من العملية ومن شخص الإرهابي.
قوة "برخان"
يأتي هذا النجاح في الوقت الذي تعاني فيه قوة "برخان" الفرنسية المنتشرة في 4 من 5 دول في منطقة الساحل، من صعوبات في التعامل مع الرأي العام في النيجر وبوركينا فاسو ومالي. والدليل على ذلك الصعوبات التي واجهتها قافلة عسكرية تابعة لـ"برخان" كانت متجهة من أبيدجان؛ العاصمة الاقتصادية لساحل العاج، إلى قاعدة "غاو" وسط مالي؛ إذ جرى توقيفها لأيام في بوركينا فاسو ثم في النيجر حيث وقعت صدامات مع الأهالي أدت إلى سقوط 3 قتلى. وقبل 3 أيام؛ أعلنت وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورنس بارلي، انتهاء "تحقيق داخلي" أجرته القوة الفرنسية لتجلية ظروف الحادث. وأفادت بارلي أن التحقيق أظهر أن "الجيش الفرنسي تصرّف بالشكل المناسب في مواجهة مظاهرات بالغة العنف".
وأجري التحقيق بناء على طلب من الرئيس النيجري محمد بازوم. ودارت اتهامات متبادلة بين من يؤكّد أنّ القوة الفرنسية هي التي أطلقت النار ومن يؤكّد أنّ الشرطة النيجرية هي المسؤولة، جاءت لتغذّي الشعور المناهض للوجود العسكري الفرنسي في البلدان الثلاثة.
وحرصت وزيرة الدفاع الفرنسية على التأكيد أنّ بين باريس ونيامي "حواراً جيداً"، وأنها تأمل في أن يساعد على تجنب أحداث مماثلة في المستقبل.
بالنظر إلى ما سبق؛ فإنّ النجاح العسكري الفرنسي الأخير من شأنه تلميع صورة القوة الفرنسية بعض الشيء. وسبق لـ"برخان" أن نجحت في القضاء على زعيم "القاعدة في الصحراء الكبرى" عدنان أبو الوليد الصحراوي، في منتصف آب/أغسطس الماضي بمنطقة الحدود المثلثة التي تتركز فيها بشكل كبير العمليات الجهادية الإرهابية.
في المقابل؛ فإنّ الأجهزة الأمنية النيجيرية ألقت القبض على ما لا يقل عن 11 شخصاً يظن أنه كانت لهم صلة من قريب أو بعيد بعملية القتل الجماعية التي استهدفت الناشطين الإنسانيين.
محاربة المجموعات الإرهابية
وتعدّ باريس أن القضاء على سومانا بورا "سيتيح مكافحة تمدد (القاعدة في الصحراء الكبرى) ومنعه من إحكام سيطرته على بعض مناطق الحدود المثلثة". وختمت قيادة الأركان الفرنسية بتأكيد أنها مستمرة في محاربة المجموعات الإرهابية بالتعاون شركائها وحلفائها في منطقة الساحل. حقيقة الأمر؛ أن باريس تجد نفسها في وضع حرج في الساحل وبلدانه التي هي مستعمراتها السابقة. وليس سراً أن ثمة حملات إعلامية وسياسية معادية لفرنسا جارية في مالي، وأيضاً في النيجر وبوركينا فاسو. وتعدّ باريس أنّ جهات أجنبية "روسية وتركية وصينية" لها ضلع في تأجيجها. وفي الأشهر الأخيرة؛ تدهورت العلاقات الفرنسية - المالية. ونهاية الأسبوع الماضي، ألغى الرئيس إيمانويل ماكرون زيارة له كانت مقررة إلى باماكو أول من أمس، بحجة انتشار متحور "أوميكرون" السريع جداً، والحاجة إلى بقائه في فرنسا. وفي الوقت عينه، عمدت قيادة الأركان إلى تنفيذ خطته الهادفة إلى خفض عديد قوة "برخان" من 5200 رجل إلى النصف في منتصف العام الحالي أو بداية العام المقبل. وحتى اليوم، انسحبت "برخان" من 3 قواعد رئيسية شمال مالي سلّمت إحداها لقوة الأمم المتحدة، والاثنتين الباقيتين إلى الجيش المالي.
الخلاف الأساسي
والخلاف الأساسي اليوم بين العاصمتين يدور حول رغبة سلطات باماكو المنبثقة من ثاني انقلاب عسكري في الاستعانة بمجموعة "فاغنر" الروسية لملء الفراغ المتأتي عن انسحاب فرنسا كما تدعي. وما فتئت باريس ترفع سيف التهديد وتؤكّد أنّ وصول ميليشيات "فاغنر" يعني خروج القوة الفرنسية الذي سيجر وراءه انسحاب الأوروبيين. وحتى اليوم؛ تنفي سلطات باماكو وجود أي اتفاق. إلّا إنّ معلومات تتحدث عن وصول أفراد من التنظيم الروسي إلى العاصمة المالية، ويجري الحديث عن توافق على استقدام ألف فرد من هذه الميليشيا مقابل 10 ملايين دولار شهرياً. يضاف إلى ذلك؛ أن باريس، كما عواصم غرب أفريقيا، تريد من سلطات مالي الوفاء بوعودها وإجراء الانتخابات العامة في شباط/فبراير المقبل من أجل إعادة السلطة إلى حكومة مدنية. ولا شيء يؤشر حتى اليوم إلى أن باماكو ستفي بوعودها؛ مما يزيد العلاقة مع باريس توتيراً؛ وكذلك مع العديد من العواصم الأفريقية.