: آخر تحديث
"إيلاف" تجول في عاصمة الرشيد وعوالم شارعي الكرادة والمتنبي ،، والبقية تأتي

بغداد ،، فضاءات ساحرة تنسج اللقطات والتفاصيل وتغوص في عبق التاريخ

7
8
5

إيلاف من بغداد: يصل زائر بغداد إليها وفي رأسه برنامجٌ حافلٌ لما يعتزم زيارته من معالمها التاريخية والرمزية الغنية والمتعددة، قرأ عنها وسمع.

يتحوّل مذاق الزيارة أكثر متعة حين تكون برفقة أصدقاء، وتزداد متعة التذوّق إذا كنت برفقة أحد أبناء المدينة، ممّن خبر خريطتها السرّية والعلنية. ألم يقل الشاعر العظيم أبو الطيب المتنبي:

شرُّ البلادِ مكانٌ لا صديقَ بهِ

وشرُّ ما يَكسِب الإنسانُ ما يَصِمُ

مساء وصولي إلى بغداد، كان الموعد مع شارع الكرادة، ذي النكهة الحميمية، حيث يقع فندق "بابل"، مربط خيل الصحافيين المدعوين لتغطية القمة العربية الرابعة والثلاثين. في الجانب الآخر من الفندق، يمتد شارع أبي نواس محاذيًا نهر دجلة، الذي خلّده الشاعر محمد مهدي الجواهري بقصيدته "يا دجلة الخير"، ومطلعها:

حيّيتُ سفحَكِ عن بُعدٍ فحيّيني

يا دجلةَ الخيرِ، يا أُمَّ البساتينِ

حيّيتُ سفحَكِ ظمآنًا ألوذُ به

لوذَ الحمائمِ بين الماءِ والطينِ

يتفاعل كيمياء القلب مع سحر المكان. حركيةٌ وحيويةٌ لا تتوقّف، رائحة سمك المسكوف تعطر الأجواء، ولا تنافسها سوى رائحة الخبز العراقي الطازج المنبعثة من المخابز التقليدية.

في مقهى رضا علوان نحتسي الشاي بمذاقٍ عراقيٍّ. ثمة حشدٌ من الرواد، فيهم المثقفون، الصحافيون، وكل ما ينتمي إلى النخب، والعامة من الناس.

منذ البداية، ظهر "العربون": المدينة في أمنٍ وأمان. ودّعت، إلى غير رجعة، ما نقلته شاشات التلفاز من صور دمار وتفجيرات وجُثث وجَرحى. هناك توقٌ للحياة، ورغبةٌ في نسيان الفواجع وصروف الدهر.

في حضرة الجواهري
في اليوم التالي، كان لا مفر من زيارة منزل الشاعر العراقي الكبير محمد مهدي الجواهري (أبو فرات)، الكائن في منطقة القادسية، وهو منزل جرى تحويله إلى متحفٍ ومركزٍ ثقافي يُعرف باسم "بيت الجواهري".

لكن، من سوء الطالع، أن الزيارة صادفت يوم عطلة، وتصادف أن مفتاح المنزل كان مع شخصٍ خارج بغداد. فسمح لنا الحارس بالدخول إلى حديقة المنزل، المزدانة بلوحاتٍ، كُتب على إحداها:

"هذا هو بيت الجواهري الأول والأخير في العراق".

غير بعيد عنها، انتصب تمثالٌ للجواهري أنجزه النحّات العراقي خليل خميس. بينما شملت باقي اللوحات، الموضوعة على الجدار الخلفي للمنزل، مجموعةً من قصائد الجواهري: "يا دجلة الخير"، "أبو العلاء"، "المقصورة"، "يوم الشهيد"، "آمنت بالحسين"، "هاشم الوتري".

بُني المنزل عام 1971 على مساحةٍ تبلغ حوالي 550 مترًا مربعًا، وكان مسكنًا للجواهري حتى مغادرته العراق في أواخر سبعينيات القرن الماضي .

جاءت فكرة تحويل منزل الجواهري إلى متحف نتيجة مطالب عدّة ومتكررة من قبل عائلته، واتحاد الأدباء والكتّاب في العراق، وعدد من مثقفي البلد.

في عام 2013، استجابت الحكومة العراقية لتلك المطالب، واشترت المنزل تمهيدًا لتحويله إلى متحف.وفي عام 2018، أعلنت أمانة بغداد بدء أعمال الترميم والصيانة.

أما في أغسطس 2022، فقد جرى افتتاح "بيت الجواهري" رسميًا، بحضور رئيس الوزراء العراقي آنذاك مصطفى الكاظمي، وحشد من المثقفين.


الزميل حاتم البطيوي بجانب تمثال الشاعر محمد مهدي الجواهري

يضم المتحف مقتنياتٍ شخصية للشاعر، بما في ذلك دواوينه، نظّاراته الطبية، ساعات يده، مسبحاته، صوره، رسائله الخاصة، بالإضافة إلى أوسمة وهدايا تلقّاها من رؤساء وملوك وشخصياتٍ معروفة.

يروم المتحف تكريم إرث الجواهري الثقافي والأدبي، ويُعد مركزًا للأنشطة الثقافية في بغداد، يستقطب الزوّار المهتمين بالأدب والتاريخ العراقي. لذا، يُعتبر "بيت الجواهري" أكثر من مجرد متحف؛ إنه رمز للاعتراف الرسمي بأهمية الأدب والشعر في العراق.

مع المتنبي… نهاريًا وليليًا
شارع المتنبي هو القلب الثقافي النابض لبغداد، ويمثل رمزًا للهوية الثقافية الغنية لبلاد الرافدين. فقد بات، على مدى عقود، ملتقى للمثقفين، الكتّاب، الشعراء، والفنانين. تصطف فيه المكتبات ودور النشر والأكشاك التي تبيع الكتب القديمة والجديدة على جانبيه.

لقد قيل في ما مضى: "القاهرة تكتب، بيروت تطبع، وبغداد تقرأ". أما الآن، فقد أصبحت عاصمة الرشيد تكتب وتطبع وتقرأ.

يعود تاريخ الشارع إلى العهد العثماني، لكن تطوّره كمركز ثقافي بدأ في العهد الملكي.

سُمي الشارع تيمّنًا بالشاعر أبي الطيب المتنبي، أحد أعظم شعراء العرب في العصر العباسي، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.

يمتد الشارع من باب المعظم قرب نهر دجلة، ويضم معالم مهمة مثل: سوق السراي، الذي يعد أقدم سوق للقرطاسية في بغداد، والقشلة، وهو مبنى حكومي عثماني قديم تحوّل إلى مركز ثقافي، وجامع المرادية، ومقهى الشابندر، ومقهى الحنش.

يكتظ الشارع صباح كل جمعة بالمثقفين الذين يحجون إليه باكرًا، وتُقام فيه ندوات شعرية وموسيقية، ومعارض كتب.

احتضن الشارع ولا يزال العديد من دور النشر العراقية الشهيرة، وأسهم في نشر الفكر بأنواعه: القومي، اليساري، الإسلامي.

ورغم رمزيته الثقافية، لم يسلم الشارع من العنف، خاصة بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، إذ تعرّض لتفجيرات عديدة، أبرزها تفجير 5 مارس 2007، الذي عُدّ الأكثر دموية.

هزّ انفجارٌ ضخم الشارع بفعل شاحنة مفخخة، وأدى إلى مقتل أكثر من 30 شخصًا، وجرح العشرات، واحتراق مكتباتٍ ودور نشر، وتدمير مقهى الشابندر جزئيًا.

كان ذلك الهجوم محاولة لتدمير الذاكرة الثقافية العراقية، ورسالة واضحة من قوى الظلام ضد الفكر والتنوير.

شارع المتنبي متعدد الأوجه؛ فنهاره ليس كليله.

يتحوّل إلى شارعين: أحدهما نهاري، يغلب عليه طابع الثقافة، والآخر ليلي، يسوده الهدوء.

الناس يحجّون إليه باكرًا، رغم حرارة الجو التي تخفّ قليلًا بسبب انخفاض الرطوبة، إلا أن الازدحام فيه يظل شديدا.

ثمة أناس من كل الأعمار: فتيان وفتيات، نساء ورجال، شيوخ وكهول. منهم من يتصفح الكتب، أو يبحث عن عنوان، ومنهم من يرغب بلقاء شاعر أو مثقف أو فنان تشكيلي.

لكن أكثر ما يلفت النظر اليوم هو نظافة الشارع وتحوّله إلى تحفة حضارية.

مقهى الشابندر والشهداء الخمسة
يُطلق على مقهى "الشابندر" لقب "مقهى الشهداء"، فصاحبه الحاج محمد الحشالي، الذي توفي قبل أشهر قليلة، فقد خمسة من أبنائه دفعة واحدة خلال انفجار وقع عام 2007.

ظلت صورهم المعلقة عند مدخل المقهى شاهدة على هول الفاجعة: فاجعة عائلة، وفاجعة شارع، وفاجعة وطن.

في المقهى ذاته، التقيت الكاتب العراقي كاظم المقدادي، وهو شقيق الزميلة وحيدة المقدادي، التي رحلت عن عالمنا قبل أشهر قليلة. كنت قد تعرفت عليها في دار الصحافة العربية في هاي هولبورن بلندن، حيث كانت عضوًا في هيئة تحرير مجلة "سيدتي"، بينما كنت أعمل ضمن هيئة تحرير صحيفة "الشرق الأوسط".

أما كاظم، فلم يسبق لي لقاؤه، وإن كنت قد رأيته عن بعد في إحدى المناسبات في باريس. كنت أقرأ له مقالاته التي كان ينشرها في الصفحة الأخيرة من مجلة "كل العرب"، التي توقفت عن الصدور في بداية عقد التسعينيات. كما كان يكتب تحقيقات في الصفحات الأولى من المجلة نفسها، عن مدن كان يزورها.

عاد كاظم قبل سنوات إلى العراق، وترك عاصمة الانوار وراءه، لتتحول إلى مجرد ذكريات مرت.

عند الخروج من مقهى الشابندر، يلتقي المرء شخصيات لطيفة، مثل الشاب الذي يؤلف القصائد حسب اسم الشخص، وقد ألقى قصيدة ترحيب بي وبغيري من الصحافيين المشاركين في تغطية قمة بغداد. الجميل في هذا الشخص أنه، حين ينتهي من إلقاء القصيدة، يسقيك فنجان قهوة، ثم ينتقل إلى شخص آخر ليعيد الكرة معه.

بعدها، يقبل عليك شخص تجاوز عقده الخامس، ويقدم نفسه بثقة بأنه الرئيس المقبل للعراق!

وحين قلت له إن النظام السياسي العراقي خصص رئاسة الجمهورية للأكراد، وأنت لست كرديًا، ألقى خطبة عصماء أنهاها بمهاجمة الصهيونية والإستعمار.

مقهى الحنش… صالون ثقافي مفتوح 
بات مقهى الحنش عَلَمًا معروفًا لدى المثقفين والكُتّاب والزائرين من داخل العراق وخارجه. ويتميّز عن غيره من المقاهي التقليدية بطابعه الفكري الحُر، إذ أصبح منذ افتتاحه فضاءً مفتوحًا للنقاشات، واللقاءات الأدبية، والأمسيات الشعرية، فضلًا عن كونه نقطة انطلاق أو استراحة للزائرين الذين يؤمون شارع المتنبي كل يوم جمعة، من باعة كتب، وشعراء، وتشكيليين، وصحافيين، وطلبة علم.

حين يدخل الزائر إليه، يكتشف حلقات نقاش دائرية .فذاك كاتب معروف يناقش آخر إصدار، وذاك شاعر شاب يقرأ قصيدته الأولى وسط تصفيق الأصدقاء وروّاد المقهى.

لا حدود للحديث في المقهى؛ فمواضيع النقاش تمتد من الأدب إلى السياسة، ومن التاريخ إلى الفلسفة، في نقاشات قد تبدأ بجملة عابرة وتنتهي بخلافات فكرية محترمة، غالبًا ما تُتوَّج بالضحك والمرح.

يُنظر إلى مقهى الحنش باعتباره مرآة لمزاج الشارع الثقافي والسياسي البغدادي. فعند وقوع أي حدث كبير، أو تطوّر سياسي، أو افتتاح معرض فني، أو حدث ثقافي، تدور فيه النقاشات بحرارة وبلا عقد.

ما يميز مقهى الحنش أكثر هو حفاظه على روح بغداد القديمة المتمثلة في البساطة، والكرم، والعفوية، والانفتاح، وتقبّل الاختلاف. كما أن النخبوية المتعالية لا مكان لها هنا؛ فالمقهى مفتوح للجميع، مهما اختلفت مكانتهم الاجتماعية.

وكما هو الحال مع مقهى الشابندر، فإن مقهى الحنش لا تنسى من الذاكرة؛ فهي ليست مجرد مكان لاحتساء القهوة والشاي، بل صفحة حية من كتاب الثقافة العراقية المعاصرة. وفوق كل ذلك، فهي صامدة رغم كل ما مر بجانبها من أهوال ومآسٍ.

شموخ أبي الطيب ونازك الملائكة 
على بُعد خطوات قليلة، يقف تمثال أبي الطيب المتنبي شامخًا، أمام شمس بغداد اللاهبة، ناظرًا باتجاه دجلة، شاهدًا على تقلبات الزمن.


تمثال أبي الطيب المتنبي

في الليل، يبدو التمثال زاهيًا، تزيده الإضاءة بهاءً ورونقًا. وأمام "القشلة" التي لا تبعد كثيرًا، يقف تمثال الشاعرة نازك الملائكة، معبّرًا عن شموخ الشعر الحديث.


تمثال الشاعرة نازك الملائكة

وغير بعيد عنهما، تقع المدرسة المستنصرية، التي تُعد من أهم جامعات العالم الإسلامي في العصر العباسي. فقد بناها الخليفة المستنصر بالله عام 1233، واكتسبت أهمية خاصة في تدريس اللغة العربية وعلوم الدين والفلك والرياضيات والطب والصيدلة، وكانت تضم مستشفى خاصًا لتدريب الطلبة.


الزميل حاتم البطيوي بالقرب من المدرسة المستنصرية

تقع المدرسة في جانب الرصافة، قرب جسر الشهداء، وتطل هي الأخرى على نهر دجلة.

سيزيف العراقي 
يُعد شارع المتنبي بحق "سيزيف العراقي". فقد أُعيد ترميمه عدة مرات، أبرزها بعد عام 2007 بدعم من الحكومة العراقية ومؤسسات ثقافية دولية.

وفي عام 2021، شهد الشارع حملة إعادة تأهيل كبرى بدعم من أمانة بغداد وجهات ثقافية أخرى، شملت تبليطه بالحجر التراثي، وتجهيزه بإنارة تقليدية، وترميم واجهاته القديمة.

عاد الشارع ليزدهر من جديد، ويستعيد زواره من محبّي الثقافة والفن. لا يتعلق الأمر هنا بمجرد شارع، بل برمز لروح بغداد ومقاومتها للفكر الظلامي. 

ورغم الهجمات الإرهابية ومحاولات طمس الهوية، يبقى شارع المتنبي منارة ثقافية عراقية لا تُطفأ.

الكاهي والقيمر في الصدرية 
قبل أن ينجلي الفجر ويُقدّم القمر استقالته، تاركًا المجال للشمس، اقترح عليّ صديقي وزميلي الكاتب الصحافي العراقي معد فياض زيارة منطقة الصدرية، وهي واحدة من أقدم مناطق بغداد وأعرقها، إذ جمعت بين التاريخ العريق والحياة التجارية النشطة.

هناك، لا تنضب الحركة، ويقصدها الناس لتناول "الكاهي" و"القيمر"، خاصة في مطعم رسول أبو الكاهي الذائع الصيت، والذي أصبح ماركة بغدادية مسجلة. تمر بجانبه شبعانًا من وجبة عشاء دسمة، فتضعف مستسلمًا وتلتهم أصابعك مع الكاهي والقيمر.

يعود اسم الصدرية إلى الشيخ صدر الدين محمد الهروي، المتوفى عام 677هـ (1279م)، والذي دُفن في المنطقة. تُوثّق سجلات المحكمة الشرعية اسم "الصدرية" منذ عام 1233هـ (1817م)، مما يدل على قدمها وأهميتها التاريخية.

وتوجد في المنطقة سوق الصدرية، الذي يُعد من أقدم الأسواق في بغداد، حيث يعود تاريخه إلى العصر العباسي. يمتد السوق على طرف شارع الكفاح، ويتميّز بأزقته الضيقة ومحلاته المتنوعة التي تبيع كل شيء من المواد الغذائية والتوابل والأجبان والقيمر إلى الملابس والأدوات المنزلية. ورغم تعرضه لتفجير كبير عام 2007، بقي السوق صامدًا، محافظًا على نشاطه التجاري وحيويته.

لا تخطئ العين الحيوية الثقافية والاجتماعية لمنطقة الصدرية، حيث تنتشر المقاهي الشعبية التي تُعد ملتقى للأهالي، خاصة في المناسبات الدينية وشهر رمضان.

معالم بغداد تتناسل ولا تنضب 
تتناسل معالم بغداد ولا تنضب، اذ لا تكفي مدة ستة أيام لارتيادها جميعها. وقد يلعب الحظ أن يمر المرء صدفة بجانب بعضها فيجد نفسه تارة بجانب قوس النصر وتارة في شارع الرشيد أو أمام  الجسر المعلق حيث يبدو البنك المركزي العراقي، الذي صممته المهندسة العراقية العالمية الراحلة زها حديد، منتصبا بهمة.

يعرف "قوس النصر" أيضًا باسم "سيوف قادسية"، هو نصب تذكاري بارز يُجسد مرحلة مهمة من تاريخ العراق الحديث.إذ جرى تشييده عام 1989، بتكليف من الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، لإحياء ذكرى "الانتصار" في الحرب العراقية-الإيرانية (1980–1988). صممه النحات العراقي خالد الرحال، وبعد وفاته، أكمل العمل النحات محمد غني حكمت. 

يتكون النصب من زوج من الأقواس، كل منها يتألف من يد برونزية ضخمة تمسك بسيف فولاذي طوله 43 مترًا. يُقال إن اليدين نُحتتا استنادًا إلى قالب من يدي صدام حسين نفسه. 

تحت السيوف، وُضعت شبكة تحتوي على خمسة الاف خوذة حقيقية لجنود إيرانيين قُتلوا خلال الحرب، جمعت من ساحات المعارك.    

يقع "قوس النصر" عند مدخل ساحة الاحتفالات الكبرى في بغداد، بالقرب من متنزه الزوراء. كانت هذه الساحة تُستخدم في عهد صدام حسين كموقع للاستعراضات العسكرية والمناسبات الوطنية، حيث يمر الجيش العراقي تحت القوسين في عروض سنوية. وما زالت صورة صدام حسين فيه وهو يطلق النار من بندقية بيد واحدة بمناسبة استعراض للجيش العراقي نظم بمناسبة يوم القدس ماثلة أمام الأذهان. 

بعد سقوط نظام صدام حسين في عام 2003، أصبح "قوس النصر" موضع جدل. ففي عام 2007، بدأت الحكومة العراقية في تفكيك النصب كجزء من حملة لإزالة رموز النظام السابق. بيد أن السفير الأميركي آنذاك، زلماي خليل زاده، تدخل لوقف عملية الإزالة، مشيرًا إلى أهمية النصب كجزء من تاريخ العراق. 

وفي عام 2011، بدأت السلطات العراقية في ترميم النصب، مما يعكس تحولًا في النظرة إليه من رمز للديكتاتورية إلى معلم تاريخي وثقافي.  

يُعتبر "قوس النصر" مثالًا على الفن الشمولي الذي يعكس تمجيد السلطة، حيث يُجسد القوة والانتصار من خلال تصميمه الضخم والمهيب. ورغم ارتباطه بفترة حكم النظام السابق، إلا أن النصب أصبح مع مرور الوقت جزءًا من الذاكرة الجمعية للعراقيين، يُثير مشاعر متباينة بين الفخر الوطني والانتقاد للرمزية السياسية. 

يبقى "قوس النصر" من أبرز المعالم السياحية في بغداد، يزوره المواطنون والسياح على حد سواء، ويُستخدم كموقع لالتقاط الصور التذكارية، مما يعكس تحول النصب من رمز سياسي إلى جزء من التراث الثقافي العراقي. من دون أن ننسى نصب الحرية الذي انجزه عام 1961 رائد الفن التشكيلي العراق الحديث جواد سليم. وهو عمل نحتي ضخم يختصر تاريخ العراق الحديث، ويُخلّد ثورة 14 تموز 1958. صمّمه سليم بأسلوب تعبيري حديث يجمع بين الحداثة والفن الميثولوجي الرافديني، باستخدام البرونز والحجر الجيري. وقد أنجزه بالتعاون مع المعماري رفعت الجادرجي، لكنه توفي قبل إتمامه، فأكمله تلميذه محمد غني حكمت.

غير قابل للكسر 
خلال وجودي في بغداد زرت معرضا فنيا مشتركا بعنوان "غير قابل للكسر" أقيم في رواق "ذا غاليري"، جمع نخبة من الفنانين التشكيليين الأكراد والعرب في تجربة فنية وإنسانية تهدف إلى تعزيز قيم التعايش والتنوع الثقافي في العراق.


جانب من معرض "غير قابل للكسر"

الفنانون المشاركون هم: فايز محمد ، عثمان احمد، جيمن إسماعيل، صالح النجار، سلام عمر، كريم فرحان، مكي عمران، دار رسول، محمد الكناني، محمود قريش. 

ضم المعرض أعمالًا فنية متنوعة، شملت لوحات تشكيلية ومنحوتات، عكست تجارب الفنانين المشاركين وتنوع خلفياتهم الثقافية. تناولت الأعمال موضوعات تتعلق بالهوية، والتحديات الاجتماعية، والآمال المشتركة، مما أضفى على المعرض طابعًا فنيًا وإنسانيًا مميزًا.

يُعد هذا المعرض خطوة مهمة نحو تعزيز الحوار الثقافي بين مكونات المجتمع العراقي، حيث أتاح الفرصة للفنانين من مختلف الخلفيات للتعبير عن رؤاهم الفنية في فضاء مشترك. 


لوحة في معرض "غير قابل للكسر"

حظي المعرض بإقبال واسع من الجمهور والنقاد، الذين أشادوا بمستوى الأعمال المعروضة وبالرسالة التي يحملها المعرض في تعزيز الوحدة والتنوع الثقافي.

يبين هذا الإقبال الواسع تعطش العراقيين للثقافة والفن، وتوجيه رسالة مفادها إنهم سئموا من الحروب وحالة اللا استقرار والاضطرابات، فثمة أشياء جميلة في الحياة تستحق الاستمتاع بها . 

من الضروري القول هنا إن للعراق باعٌ طويل في الفنون التشكيلية، توثّقه آثار السومريين والبابليين والآشوريين وغيرهم من الحضارات التي ازدهرت في بلاد الرافدين، وصولًا إلى جواد سليم وفائق حسن وعطا صبري، الذين أسسوا قاعدة متينة للفن العراقي المعاصر، مستفيدين من الدراسة في أوروبا، وممزجين إياها بالهوية المحلية.

لقد مهّد هؤلاء الطريق لأسماء أخرى أغنت المشهد التشكيلي في العراق، مثل ضياء العزاوي، ورافع الناصري، وإسماعيل فتاح الترك، وسعاد العطار، وليلى العطار، وأردش كاكافيان، وفريدة شابو، وهيمت علي، وغيرهم كثير.

ورغم ما مرّ به العراق من مآسٍ سياسية واجتماعية وحروب، فإن الفنانين العراقيين حافظوا على حيوية المشهد التشكيلي، سواء داخل البلاد أو في المهجر. وهو ما جعل الفن العراقي المعاصر اليوم واحدًا من أكثر الفنون العربية عمقًا وغنىً من حيث المضمون والتقنية.


نهر دجلة ليلاً


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في لايف ستايل