: آخر تحديث

عذراً ابن خلدون والوردي.. علم الاجتماع ليس علماً!

6
7
5

لطالما سعى الإنسان إلى تصنيف معارفه وترتيبها تحت مظلة (العلم) ذلك المصطلح الذي يمنح أي مجال شرعية وقوة وهيبة ومن بين هذه المحاولات، برز ما يُسمى بعلم الاجتماع كأحد الفروع التي تدّعي لنفسها مكانة علمية مساوية للفيزياء والكيمياء والرياضيات!

لكن السؤال الجوهري الذي يُطرح هنا: هل يمكن حقاً اعتبار علم الاجتماع علماً؟ أم أنه مجرد بناء فكري يرتدي قناع العلم دون أن يمتلك أدواته الحقيقية؟

لنبدأ بتفكيك مفهوم العلم ذاته ، العلم في جوهره، هو نظام معرفي يقوم على منهج تجريبي صارم، يعتمد على الملاحظة، والاختبار، والتكرار، وصولاً إلى صياغة قوانين عامة تفسر الظواهر وتتيح التنبؤ بها بدقة ، الفيزياء على سبيل المثال، تفسر حركة الأجسام عبر قوانين نيوتن، وتستطيع التنبؤ بمسار الكواكب بدقة مذهلة. الكيمياء تفكك المادة إلى عناصرها الأساسية وتتحكم في تفاعلاتها وفق قواعد ثابتة لا تتغير ، أما الرياضيات فهي لغة الكون الصارمة، حيث لا مكان للغموض أو الاستثناءات ، فهل يمتلك علم الاجتماع نفس القدرة على صياغة قوانين كونية تحكم السلوك البشري والمجتمعات؟

الجواب الصادم: لا…!

علم الاجتماع يفتقر إلى أهم عنصرين يميزان أي علم حقيقي: الثبات والتنبؤ. السلوك البشري ليس نظاماً مغلقاً يمكن دراسته بمعزل عن العوامل المتغيرة باستمرار ، المجتمعات تتغير تحت تأثير الدين والسياسة، والاقتصاد، والثقافة وحتى الظروف الفردية التي لا يمكن ضبطها أو حصرها. هل يمكن لعالم اجتماع أن يتنبأ بثورة شعبية قبل وقوعها؟ هل يستطيع أن يحدد كيف سيتصرف مجتمع معين عند تعرضه لأزمة غير مسبوقة؟ الجواب، مرة أخرى، هو لا….!

علاوة على ذلك، فإن أي محاولة لتطبيق المنهج التجريبي في علم الاجتماع تصطدم بحقيقة مؤرقة: لا يمكن عزل المتغيرات الاجتماعية بشكل كامل ، في المختبرات العلمية يمكن للعلماء التحكم في الظروف البيئية وتكرار التجربة مرات عدة لضمان دقة النتائج. لكن هل يمكن عزل مجموعة بشرية عن تأثير الدين، أو الثقافة، أو التاريخ ، او الجغرافية ؟ 

حتى إن حاول الباحث ضبط بعض العوامل، فإنه يظل عاجزاً عن التحكم بالعوامل النفسية والذاتية التي تتداخل بشكل معقد في كل تجربة اجتماعية.

ثم هناك مسألة الذاتية. العلم الحقيقي يسعى إلى الموضوعية المطلقة، حيث يتم تحليل البيانات بعيداً عن التأثيرات الشخصية أو الأيديولوجية. لكن كيف يمكن لعالم الاجتماع أن يكون موضوعياً وهو يدرس مجتمعه الخاص؟ إن الباحث الاجتماعي ليس مراقباً محايداً ، بل هو جزء من النسيج الذي يحاول تحليله. أفكاره، وخبراته، وقيمه تتداخل مع ملاحظاته، مما يجعل استنتاجاته انعكاساً لوجهة نظره أكثر منها حقائق علمية ،في هذا السياق يصبح علم الاجتماع أقرب إلى الفلسفة منه إلى العلم، حيث تُبنى النظريات على تأملات وتحليلات ذات طابع ذاتي.

إقرأ أيضاً: الصحراء المغربية: الحتمية التاريخية والسياسية للوحدة الوطنية

لنأخذ مثالاً عملياً: هل يمكن تفسير ظاهرة مثل (الثورات) بنظرية علمية واحدة كما نفسر سقوط التفاحة بقانون الجاذبية؟ هناك عشرات النظريات الاجتماعية التي تحاول تفسير الثورات من (نظرية الصراع الماركسي إلى نظرية الحرمان النسبي ) لكن لا توجد نظرية واحدة قادرة على تفسير جميع الحالات. تختلف الأسباب والدوافع من مكان لآخر ومن زمن لآخر. وهذا يعكس حقيقة أن ما يُسمى بعلم الاجتماع ليس أكثر من مجموعة من التفسيرات المتباينة التي تعتمد على السياق التاريخي والثقافي.

ثم هناك المشكلة الكبرى: اللغة الغامضة والمصطلحات الفضفاضة..!

في الفيزياء عندما نقول (كتلة) أو (سرعة) هناك تعريفات دقيقة ومحددة ، لكن ماذا يعني مصطلح مثل (الوعي الجمعي) أو  (الهيمنة الثقافية)..؟ 

يمكن تفسير هذه المفاهيم بطرق متعددة، وغالباً ما تُستخدم بمرونة مفرطة تسمح لكل باحث بتطويعها وفقاً لوجهة نظره. هذه الضبابية الفكرية تخلق وهم العمق العلمي، لكنها في الحقيقة دليل على غياب الدقة.

إقرأ أيضاً: الإشعاع الخفي: قتل صامت دون أثر

وربما الأدهى من ذلك أن علم الاجتماع يُظهر نفسه كسلطة معرفية تدّعي القدرة على فهم الإنسان والمجتمع بشكل كامل. لكنه في الواقع يقف عاجزاً أمام أبسط الأسئلة الوجودية: لماذا يتغير البشر؟ لماذا نكرر أخطاءنا رغم وعينا بها؟ لماذا تنجح بعض المجتمعات وتفشل أخرى رغم توفر نفس الموارد؟ لو كان علم الاجتماع علماً حقيقياً، لامتلك إجابات قاطعة لهذه الأسئلة، لكنه لا يفعل.

اعتقد انه يجب علينا الاعتراف بحقيقة غير مريحة: علم الاجتماع ليس علماً وإنه منظومة فكرية تحليلية، أداة لفهم بعض جوانب السلوك البشري، لكنه يفتقر إلى مقومات العلم الحقيقية وربما حان الوقت للتوقف عن خداع أنفسنا بمنحه لقباً لا يستحقه، وللنظر إليه كما هو: محاولة فلسفية معقدة لفهم ما لا يمكن فهمه بالكامل، فهو ليس أكثر من وهم العلم، في ثوب الفكر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف