: آخر تحديث

التكنولوجيا والسياسة

6
4
3

مارك زوكربيرغ، مؤسس فيسبوك، يقول: "وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد فقط وسيلة للتواصل، بل أصبحت ساحة للسياسة والنفوذ والسيطرة على العقول"، فيرد عليه إدوارد سنودن، أحد المدافعين عن الخصوصية: "كلما أصبحت التكنولوجيا أكثر تعقيداً، ازدادت سهولة السيطرة على المجتمعات". هذه المقولات هي لأحد أهم المتخصصين بالتكنولوجيا، فالواقع يثبت ما خلص إليه هؤلاء، خاصة إذا عرفنا أن أي حركة تقوم بها، وكل ضغطة زر على هاتفك، وكل كلمة تكتبها على الإنترنت، تتحول إلى جزء من مخطط أكبر قد يغير رأيك السياسي ويدفعك لاتخاذ قرارات لم تكن يوماً تفكر بها، بل ربما يؤثر على مصير الانتخابات في بلدك. فنحن نعيش في عصر تتحكم فيه التكنولوجيا بالسياسة، إذ أصبحت البيانات هي السلاح الجديد، وأصبحت الخوارزميات هي العقل المدبر. لكن السؤال: هل يمكننا السيطرة على هذا الوحش الرقمي، أم أنه سيواصل الهيمنة على مستقبلنا السياسي؟ وللإجابة على هذا السؤال، يجب أن نتعمق أكثر في تفاصيل التكنولوجيا والسياسة معاً.

لنبدأ من الكم الهائل من البيانات، التي يقول عنها مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي، كلاوس شواب: "إنها النفط الجديد في العالم، وإن من يملك البيانات يملك القوة على الكوكب". وعلى أرض الواقع، يترك أكثر من خمسة مليارات شخص يومياً آثاراً رقمية أثناء استخدامهم الهواتف الذكية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. هذه الآثار تتحول إلى بيانات تُباع وتُشترى وتُستخدم في أغراض مختلفة، مثل تحسين الإعلانات، إلى التأثير على سياسات دول بأكملها. فكل ثانية تمر الآن يتم فيها إنتاج أكثر من اثنين ونصف كوينتيليون بايت من البيانات حول العالم. هذه البيانات تشمل النشاطات عبر الإنترنت، مشترياتنا، وحتى تحركاتنا عبر الهواتف الذكية. والسؤال: كيف تُجمع هذه البيانات؟ ولماذا تعتبر بهذه الأهمية؟

البيانات الضخمة ليست مجرد أرقام، بل هي أنماط وسلوكيات المستخدمين. فالشركات التقنية الكبرى، مثل فيسبوك وغوغل وإكس، تجمع هذه البيانات عبر طرق مختلفة، منها نشاطات المستخدمين على منصاتها، والتطبيقات التي تُحمَّل على الهواتف، وبيانات المواقع الجغرافية من نظام تحديد المواقع "جي بي إس". هذه البيانات تمنح الشركات قوة لفهم الأفراد والجماعات وتصميم رسائل موجهة لهم، وهذا ما يُعتبر السلاح الجديد في الحرب على العقول، حيث أصبحت القدرة على جمع وتحليل البيانات ميزة استراتيجية في السياسة والاقتصاد.

في تقارير صادرة عن جهات مختلفة مهتمة بهذا المجال، ذُكر أن شركات مثل فيسبوك وغوغل تجمع بيانات المستخدمين من خلال نشاطاتهم على المنصات، مثل تسجيل الإعجابات وعمليات البحث وحتى المحادثات الخاصة، لدراسة سلوكهم. وفي تقارير أخرى، ذكر أن التطبيقات المجانية، مثل "وذر آب"، تقوم بجمع بيانات الموقع وبيعها لشركات التسويق بملايين الدولارات. تأكيداً على تأثير وسائل التواصل الاجتماعي في سلوك روادها، والتأثير عليهم، أصبح من المعروف أن فيسبوك يملك بيانات مستخدميه البالغ عددهم مليارين وتسعمئة مليون مستخدم، وهذه البيانات تضم اهتماماتهم، وصداقاتهم، وحتى مشترياتهم المفضلة، مما يسمح بفهم تفكير وسلوك وتفضيلات كل مستخدم على حدة.

وفق دراسات حول مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، يظهر أن ثلاثة وستين بالمئة من الأشخاص يدركون أن بياناتهم الشخصية تُباع لشركات الإعلانات، وهذا يدل على نقص في الوعي العام حول كيفية استخدام البيانات الشخصية في الإعلانات الموجهة.

إقرأ أيضاً: هكذا سقط جيش الأسد

لم تعد السياسة تدور حول الشعارات والخطابات الجماهيرية. اليوم، أصبحت البيانات هي المحرك الأساسي للحملات السياسية، حيث يتم تحليلها لتصميم رسائل تستهدف الناخبين بطرق دقيقة وشخصية. مثال على ذلك ما قامت به حملة ترامب، حيث استخدمت هذه التقنية لتحديد الناخبين المترددين في الولايات المتأرجحة. إذ عملت تلك التقنية عبر تحليل البيانات على تقسيم الناخبين إلى مجموعات دقيقة: ناخبون مترددون يُستهدفون برسائل حاسمة لإقناعهم، وناخبون معارضون يُحاول منعهم من التصويت، وناخبون مؤيدون تُحفزهم الرسائل لتعزيز مشاركتهم. وفي كل الحالات، نجحت التجربة، وكانت درساً للعالم بأن البيانات ليست فقط لفهم الناخبين في الانتخابات، وإنما لتغيير آرائهم عبر تصميم رسائل دقيقة ومؤثرة.

التكنولوجيا لم تكن فقط أداة بيد السياسيين لتغيير وجهات النظر أو الفوز بالانتخابات الديمقراطية، بل أصبحت أداة قوية في يد الأنظمة الاستبدادية لتعزيز قبضتها على المجتمعات والسيطرة على الأفراد. التكنولوجيا، التي كانت تُروج باعتبارها رمزاً للحرية والانفتاح، باتت تتحول في بعض الدول إلى أداة للمراقبة الشاملة، تُستخدم لملاحقة الأصوات المعارضة وإخماد أي محاولات للمطالبة بالحرية. في الشرق الأوسط، أصبحت التكنولوجيا عنصراً رئيساً في إعادة تشكيل الديناميكية السياسية، حيث يتزايد اعتماد الدول والأطراف الفاعلة على الأدوات الرقمية لتعزيز قوتها والتأثير على الرأي العام.

إقرأ أيضاً: مستقبل الصراع في البحر الأحمر

خلال ثورات الربيع العربي، كانت منصات مثل فيسبوك وتويتر أدوات محورية استخدمها المتظاهرون لتنظيم احتجاجاتهم، وإيصال أصواتهم، ونقل صورة حقيقية لما يحدث على الأرض بعيداً عن سيطرة الإعلام التقليدي. وساهمت هذه المنصات أيضاً في تشكيل تيارات سياسية جديدة. لكن مع مرور الوقت، تغيرت وظيفتها من مساحة للحريات إلى ساحات لمعركة السيطرة على الرأي العام، مما خلق حرب معلومات تُدار بشكل موازٍ للمعارك على الأرض.

التكنولوجيا لم تعد مجرد أداة للرصد، بل أصبحت جزءاً من الأدوات الدبلوماسية لتعزيز مواقف الدول. ومع تطور دور التكنولوجيا في سياسة الشرق الأوسط، يبقى التحدي الرئيس هو كيفية توجيه هذه الأدوات لخدمة الديمقراطية والشفافية، بدلاً من أن تصبح وسيلة للتلاعب بالناس. التكنولوجيا ليست أداة بطبيعتها خيراً أو شراً، لكنها تعتمد على الأيدي التي تديرها والأهداف التي تُستخدم من أجلها.

إقرأ أيضاً: مصر بين السلاح الأميركي والصيني

ختاماً، التكنولوجيا ليست شريرة بطبيعتها، لكنها تحمل خطراً عظيماً إذا تُركت دون ضوابط. فالديمقراطية بحاجة إلى أدوات تنظيمية تعيد التوازن بين القوى، حيث تكون حماية القيم الإنسانية هي الأولوية. ومن هنا، لا بد من وضع ضوابط أخلاقية للتكنولوجيا، تنظمها قوانين صارمة تطال الشركات الكبرى، مثل فيسبوك وتويتر، للحد من استخدام المعلومات الشخصية في البازارات السياسية. يجب استخدام التكنولوجيا بما يتماشى مع القيم الإنسانية، وهذا سيحدد مستقبل هذه الوسيلة الخطيرة، وأيضاً مستقبل المجتمعات بأسرها. والسؤال الأخير والأهم: هل نستطيع التحكم بالتكنولوجيا، أم ستنجح التكنولوجيا بالتحكم بنا؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف