مثلما شهد العراق القديم الاستبداد والحزن والجوع، والفيضانات وحرائق المدن، وانتشار الأوبئة والأمراض والفساد، لا يخلو عصر إلا وتكون حصة العراق هي الأكبر مساحة، والأشد حزناً في النفوس، والأقسى إيلاماً على الناس. كأنها متواليات رياضية في تكرارها عبر العصور، تتلاطم مع بعضها، لا تهدأ براكينها إلا بعد أن تنهار الأنفس، وينعدم أوكسجين الحياة.
والأكيد أنَّ رجال السياسة في العراق جمعوا كل تاريخ الكوارث الطبيعية والبشرية القديمة، وسنوات الجمر والقحط والجفاف التي تعاقبت عليها عصور العراق المختلفة، حيث جلبوها كلها بلا نقصان، بل زادوا عليها أطنان من الرذائل والجرائم والأحقاد.
هناك بيئة سياسية ملوثة بالفساد والطائفية والظلم. وخداع وتمويه باسم الطائفة، لتقرير حياة العراقي. فقد وجد أحزاباً تنهش في الإنسان كحيوان جائع مفترس، فاكتشف بأنه خُدع من هذه الأحزاب؛ أعطته حرية من الطقوس الكاذبة، وحرمته من الخبز والعمل والحرية والكرامة.
هناك حميّة السلطة والجاه تتغلب على مصالح الشعب. وجياع تنام على زبد الوعود، وعسل الكلام، وظلم الأقربون والأبعدون. فالحكومات العراقية الاستبدادية - على مرّ التاريخ -، كانت تمارس العنفَ والخوفَ والإذلال ضد أبنائها؛ بحيث بات القهر كأنه حقٌّ للسلطة، والخضوع كأنه واجبٌ على الرعايا، وهذا هو مَنشأُ كراهية العراقيين لكل حكومة.
لقد أصبح العراق رمزًا للجفاف القاتل في مجالات الزراعة والصناعة والتنمية، وموطن للفساد الذي صار ثقافة متجذِّرة في الحياة، وقوانين طبيعية تُنظم آليات الحكم واستمراره، حيث توسَّعت شبكته بشكلٍ أفقي ورأسي، مما أثر على رموزه وثقافته وجامعاته ومدارسه. وقد جلب رجال السياسة (فيروس الفساد) مع حقيبة (بريمير) الذي أنشأ مدرسة كبيرة لتخريج سياسيين فاسدين في النهّب وغسيل الأموال والمخدرات والدعارة والرشى والمحسوبية؛ إنها خطة شيطانية لقتل العراق وجعله جثةً هامدةً لا تستطيع التنفس أو النهوض أو التغيير!
إقرأ أيضاً: هندسة مستقبلنا الرقمي
لا يسعك وصف ما يجري اليوم سوى بالكارثة؛ مرادفات سياسية بالكلمات المتقاطعة، بلا برامج ورؤى في هندسة الحياة السياسية، فلا حزب قدم لنا برنامجه السياسي لحل مشكلات الوطن والشعب، وحافظ على كرامة المواطن، ولا أحد رسم لنا خريطة الحياة والمستقبل، وأنقذ البلد من براثن الفساد المزمن ومفسدة السياسي الذي يعود لنا كل مرة بقناع جديد.
إنه لغزٌ كبير، أن تتدرج في حل معادلات رياضية بمعطيات وبراهين ثابتة؛ لكنك تفشل في الوصول إلى النتيجة الصحيحة في بلد صعب يطفو على بحرٍ من الغرائب والعجائب. هو وطن التناقضات؛ صانع عبقرية المكان والفكر، ومنارة للمعرفة منذ عصورٍ خلت، وموطن الأنبياء وأولياء الله الصالحين، وفي الوقت ذاته ينتج سلبية البشر من السياسيين، فتكون المعاناة أشد قسوة على مَن يعيشون في زخَمها؛ حيث ينقطع التنفس، وتزداد أوجاع الوطنية، وتدمر المشاعر والأخلاق والقوانين، وتنتحر القيم الإنسانية، ويَفقد الإنسان روحه، بينما يُولد جيل متوحش يسعى إلى القتل واليأس، وتنشط الروح التدميرية في الذات البشرية.
إقرأ أيضاً: تعالوا نجرب التفكير الإيجابي
وعندما نتحدث عن الوطن، فأننا نتحدث عن الكرامة الإنسانية للعراقي، فلا كرامة للوطن بلا كرامة أفراده، ولا كرامة لوطن يهان فيه المواطن، حيث تبدأ الكرامة بالفرد لتنتهي بكرامة الوطن. وهيبة الدولة في كرامة المواطن، وهيبتها من كرامته، هي عزة النفس ونخوتها، ووعي الإنسان بالحرية. معادلة مرتبطة بحقوقه؛ حقه أن تكون له قيمة إنسانية، وأن يُحترم لذاته، ويتحرر من الخوف الظالم، ويشعر بالعدالة الاجتماعية، والحق في السكن اللائق، والمساواة وعدم التمييز.
الكرامة تبدأ في بناء الإنسان الحر قبل الجسور والأبراج والمطاعم والكافيهات والمولات والمقاهي، لأن قوة الأوطان في كرامة الإنسان؛ بتعليمه ومستشفياته ومصانعه ومزارعه وحقوقه الإنسانية، وحمايته من موجات الإرهاب الصامت الذي أحال المجتمع إلى جحيم من الفوضى في مختلف العلاقات.
بالمختصر؛ الكرامة هي خلاصة حقوق الإنسان، فلا قيمة ولا كرامة لوطن لا يُكرم مواطنيه، ويجعلهم يشعرون بالظلم والدونية والتبخيس والإهانة. الوطن هو إنسان يعيش بكرامة في أرض ترفع رايات المواطنة، وتبدع في إسعاد مواطنيه، وتؤسس نظامًا مدنيًّا وقوانين متقدمة تُعبِّر عن فهمٍ حقيقي للحياة.
إقرأ أيضاً: طبيب عسكري بالصدفة
الوطن الحقيقي هو الذي يحتضن المواطن بخدمات تسمو بإنسانيته: تعليم يملأ عقله بالابتكار، وصحة تجلب له السعادة وجودة الحياة، ومواطنة محصَّنة بالحقوق المتساوية، وحقوق في العيش السعيد، والعمل والرعاية الاجتماعية.
الوطن "ليس قطعة ارض ولا مجموعة من البشر، انه المكان الذي تحفظ فيه كرامة الإنسان"، كما يقول تولستوي. سألوني أين وطنك؟ فأجبتهم: المكان الذي أجد فيه كرامتي!