لا تزال الإبل تأسر قلوب السعوديين على مر التاريخ، وما زالت أيضاً المخلوقات الأثيرة في نفوسهم، تحظى بمكانةٍ ساميةٍ لا يدافعها عليها كائن آخر، فالإبل مصدر من مصادر الخير الوفير بألبانها وأوبارها وجلودها ولحومها وقدرتها على التحمّل والصبر على الجوع والعطش وقطع الفيافي والقِفار، حتى باتت رمز عزّ وافتخار للسعودي، وشغلت في قلبه مساحةً كبيرة من الحب والتعلّق والحنين (إقرأ: عشق السعوديين للإبل.. بين القيم الجمالية والنهضة الاستثمارية). هذه المكانة التي أولاها السعودي للإبل جعلته محط أنظار العالم، بسبب الاهتمام الكبير منقطع النظير بالإبل، وانتشار تربية الإبل انتشاراً واسعاً في صحارى المملكة، وإقامة المهرجانات الحافلة لها، وإنشاء المؤسسات المعنية بها، وإنفاق أموال كبيرة في مجال تربية الإبل ومسابقاتها، حيث وصل الاستثمار السعودي في الإبل إلى (50) مليار ريال سعودي.
وتتوضّح الوشائج التي تربط السعودي بالإبل من خلال عدة نقاط استعرضها فيما يأتي:
أولاً – فعاليات مسابقات الإبل:
صرّح مجلس نادي الإبل عن إطلاق مسابقة فريدة من نوعها من حيث القيمة التاريخية والرمزية والمالية للجائزة التي رصدها المجلس وهي الجائزة الأضخم في تاريخ مسابقات الإبل، وذلك جاء ضمن فعاليات النسخة التاسعة من مهرجان الملك عبد العزيز للإبل، وهذه الجائزة هي طائرة خاصة تمنح لمالك المَنْقِيَّة التي تفوز بلقب (مَنْقية الجزيرة)، وأما الجانب الرمزي في الجائزة فيتمثل بأن يتشرف مالك المنقية بالسلام على راعي الحفل.
ومن اللافت للنظر انخراط أصحاب الشأن في تربية الإبل في عالم الرقميات، وتأثرهم بالتقنيات الحديثة، عبر دمج التقانة بمسابقة (منقية الجزيرة) من خلال إنشاء منصة أطلق عليها اسم (راعي النظر)، وتعد أكبر منصة رقمية هدفها تنظيم فعاليات المسابقة والنهوض بالإرث الوطني للمملكة، وهذا العمل أمر لا بد منه تماشياً مع الثورة المعلوماتية وعصر تقانة المعلومات وانسجاماً مع طبيعة (رؤية 2030) والثقافة السائدة في المملكة، إذ إن أي مشروع يتوخى النجاح في هذا العصر لا بد أن يتوسّل معطيات التقانة الحديثة، وأن يكون له صفحات وحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي والمنصات الرقمية والتطبيقات الحاسوبية بوصفها منابر إعلامية مؤثرة.
وكان من الطبيعي أن تبرز بعض الرؤى الزائغة عن حقيقة الاهتمام الكبير بموضوع الإبل وخاصة فيما يتعلق بإقامة مهرجان الإبل، إذ نسمع بعض الأصوات الخارجية المغرضة تندّد بهذه المهرجانات الوطنية، وتستنكر الإنفاق عليها، ويرون أن ضخ مبالغ مالية ضخمة لإقامتها ما هو إلا ضرب من هدر الأموال، وهذا ما نقرؤه في بعض الصحف الأجنبية وفي حسابات بعض المعارضين من لندن، بزعمهم أن مهرجان الإبل مجرد محاولة ضمنية لإشغال شرائح معينة في المجتمع السعودي من أجل تجهيلها وصولاً إلى إلهائها وإبعادها عن نقد المرحلة التحديثية للمملكة.
ولكن من السهولة بمكان تبكيتُ هذه الحجج، ودحض تلك المزاعم، عبر طرح سؤال بسيط: هل قارنتم بين حجم الكتلة المالية المخصصة للإنفاق على هذا المهرجان بحجم الكتلة المالية والقيمة الاستثمارية الناتجة من هذا المهرجان؟
هذا من جهة، ومن جهة ثانية ثمة الجانب الرمزي الوطني لهذا المهرجان، فصحيح أن هذا المهرجان يكلف كل تلك المبالغ الباهظة والتي تبدو للمتابعين مبالغ مُبالغاً فيها، إلا أنه ليس فقط للترفيه بل إن له أبعاداً ثقافية وطنية إضافة إلى الأبعاد الاقتصادية والاستثمارية الكبيرة وعلى رأسها البعد الاستثماري، وإن العوائد المالية الكبيرة من مهرجان الإبل تغطي تكاليف المهرجان التالي وفي الوقت نفسه تكسب أموالاً كبيرة.
وهنا تجدر الإشارة إلى طرح سؤال مهم يساعدنا في دحض المزاعم هو: ما الدواعي الحقيقية والمنطقية لإقامة مهرجان بهذه الضخامة والمبالغ الهائلة؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تدخلنا في تشعبات سردية معقدة، ولكن لتبسيط الإجابة واختصارها نقول: حسبُ المملكة من هذا المهرجان الحفاظ على تراثها وتعميق هويتها الوطنية والتاريخية والحضارية، وربط الماضي بالحاضر والأصالة بالمعاصرة، والمحافظة على الموروث الشعبي الأصيل بثقله التاريخي الضخم وما يحمله من تقاليد اجتماعية تتعلق بالإبل، والاحتفال بها وإكرامها والعناية بها، فهذا الموروث تركة الأجداد للأبناء، وكانت النتيجة إحداث نوع من التماهي بين السعودية الحديثة والسعودية القديمة وتشكيل مناخ فكري مناسب، وإن كل الشعوب تنفق مبالغ هائلة في إحياء تراثها، ثم يأتي بعد هذا الداعي التاريخي الرمزي الداعي الاستثماريُّ الذي جاء تحصيلاً حاصلاً وثمرة إيجابية للمهرجان.
وبناء على ما سبق، لا مسوغ للتساؤل: هل ثمة أهداف سياسية للحكومة من مهرجان الإبل؟ فالإجابة طبعاً لا. فكما بيّنت فالمهرجان يهدف بالدرجة الأولى إلى الحفاظ على التراث، والهدف منه تاريخي صِرف، وإن كان فيه جانب استثماري؛ ولذلك ليس من المنطقي ربط كل حدث أو ظاهرة بالجانب السياسي.
ثانياً - الجانب الوجداني لمهرجان الإبل:
يشكل الاهتمام بالإبل مظهراً جلياً من مظاهر اعتزاز البدوي السعودي بهويته الوطنية والتاريخية، وتبرز عزة النفس وحرارة العنفوان في نفوس البدو الذين ينظرون إلى الجمل أو الناقة نظرة الافتخار فتلتهب في نفوسهم مشاعر الاعتزاز وتكتسي وجوههم بملامح الرجولة والبطولة والنجدة والشهامة، إن الإبل مصدر من مصادر اعتزاز البدوي ورمز من رموز هويته وصورة مشرقة عن تاريخه وصلة الوصل بين الكائن والمكان؛ أي بين البدوي والبادية، بين الراكب والصحراء، فمهرجان الإبل تجديد للانفعالات العاطفية المعتملة في النفوس وإضاءة للأنماط الوجدانية وعامل من عوامل استمرار الوهج العاطفي والتذكير بالتراث المجيد.
ولعلّ كثيراً من الناس يظنون أن التعلق بالإبل ومهرجاناتها ومتابعة شؤونها هو من هوايات كبار السن والجيل القديم دون الشباب، فكيف ينظر الجيل الجديد إلى مهرجان الإبل؟
من اللافت للانتباه اندماج الجيل الجديد بأجواء مهرجان الإبل بخلاف ما يظنه بعضنا من أنه محط أنظار الشيوخ أو كبار السن فحسب، وهذا يدل على الوعي الجمالي والذائقة الفطرية التي يتحلى بها جيل الشباب من خلال امتلاكهم ذائقة جمالية صحية وسليمة تجاه الإبل، وأيضاً يشير إلى الوعي الثقافي والعمق الوطني والإحساس بالمسؤولية التاريخية والالتزام الأخلاقي لدى جيل الشباب السعودي المحافظ على إرث الأجداد.
إضافة إلى دور المؤسسات الثقافية في العمل على تعريف الشباب بأهمية هذا الموروث وتعزيز الذوق الشبابي المعاصر تجاهه، وإطْلاعهم على القيمة الحضارية له، وكان لوزارة الثقافة السعودية دور مهم في الإشراف على عام الإبل (2024) لتعزيز حضورها وطنياً ودولياً، حتى ظهر أخيراً مفهوم (ثقافة الإبل)، وكان عام الإبل امتداداً لمشروع المملكة في تخصيص كل عام لأحد موروثاتها ورموزها التاريخية مثل عام القهوة وعام الخط وعام الشعر.
وليس غريباً أن تجعل القيادة السعودية الإبل شعاراً لجواز السفر السعودي، وهذا دليل على عمق انتماء السعودي للإبل على مر التاريخ، وينظر المواطن السعودي إلى الإبل بوصفها جزءاً من شخصيته وعاملاً من عوامل تكوينه النفسي.
ومن الملحوظ أن طباع الإبل أثرت في طباع مُلّاكها ورُعاتها إلى درجة أن كثيراً منهم يربؤون بأنفسهم عن أن يسموا الجمل أو الناقة حيواناً، وترى مالك الإبل يتغنى بناقته وأوصافها وجمالها وطباعها، ويطلق عليها أسماء جميلة يناديها بها، فغدت علاقة السعودي بالإبل علاقة تواؤم وتناغم يحرّكها الوجدان الإنساني الدافئ، وتغلغل السعودي في كُنه طباع الإبل عبر تربيته ورعايته لها، وصار يعرف ماذا تريد منه وماذا لا تريد، وماذا تحب وماذا تكره، فكثير من صفاتها وطباعها موجودة عند الإنسان وعند مُلّاكها، فهي لا تنسى مكان ولادتها ولا مراحها، وتتذكر موارد شربها، والأماكن التي عاشت فيها مدة طويلة، وتتميز بذاكرة قوية حادة، فلا تنسى من أحسن إليها ولا من أساء إليها، وتعرف الإشارات والحركات والأصوات والصيحات التي يصدرها راعيها وتتميز بطواعيتها له، فلم يُعرف عنها أنها ترعى رعياً جائراً.
وراجت كثير من القصص والحكايات عن الإبل في التراث الأدبي الشعبي تحمل في أبعادها كثيراً من الدهشة والغرابة كحقد الجمل إذا ما أغضبه صاحبه وأساء إليه، وبكاء الناقة حينما تنفعل لموقف عاطفي ما.
ثالثاً - الإبل في الأدب العربي السعودي:
ما إن تُذكر علاقة الأدب العربي بالإبل حتى يُستحضر في الأذهان فنّ الحُداء، وهو سَوْق الإبل وحثها على مواصلة السير وزيادة نشاطها، وهو نوع من الشعر العربي الغنائي على شكل أهازيج وأصوات خاصة وتعابير لغوية ألِفت الإبلُ سماعَها والتجاوب معها إيجابياً، وأدرجت منظمة اليونسكو هذا النوع من الغناء في قائمة التراث غير المادي، إذ نجحت المملكة العربية السعودية بجهود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في (30 تشرين الثاني - نوفمبر 2022) وأيضاً بالتعاون مع سلطنة عمان ودولة الإمارات العربية المتحدة بتصنيف (حداء الإبل) في قائمة التراث الثقافي غير المادي، في منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو).
وقد عُرف الحُداء منذ العصر الجاهلي، حتى إن بعض مؤرخي الأدب والشعر يرون أنه الإرهاص الأولي للشعر العربي، ويذهب بعضهم إلى أن مضر بن نزار بن مَعَدّ هو أول من ابتكر الحداء إثر سقوطه عن بعيره وانكسار يده فصاح (وايداه).
وتنفرد الآن دول الخليج عامة والمملكة العربية السعودية خاصة بهذا الفن؛ نظراً لكثرة الإبل في هذه المناطق، وكونها الموطن الأساسي لهذا الكائن، وانتشار مهنة تربية الإبل فيها على نطاق واسع، فيقوم رعاة الإبل وأصحابها على تعويد الإبل على الاستجابة للحداء، وأصبح لكل راعٍ نمط خاص من الأصوات والتعابير اللغوية الخاصة به وبجماله.
ولا يتوقف الحداء على سوق الإبل وتربيتها بل يتجاوز ذلك إلى ظهوره في مناسبات اجتماعية كحفلات الزواج والمسابقات والسباقات، ولعل من أبرز المناطق السعودية التي اشتهر فيها الحداء تبوك وجازان والقصيم.
ولا تقتصر علاقة الأدب العربي والتراث الشعبي السعودي بالإبل على فن الحداء فحسب، بل رسم الشاعر السعودي أجمل اللوحات الشعرية التي يتغنى فيها بوصف الجمل والناقة ممزوجة بالعاطفة الوجدانية المترعة بمشاعر الاعتزاز والحنين والحب.
لقد شغلت القصائد العربية التي تصف الإبل حيزاً كبيراً من صفحات كتب الأدب العربي عامة والسعودي خاصة، منذ العصر الجاهلي مروراً بعصر صدر الإسلام والعصر الأموي والعباسي.
يقول عنترة بن شداد العبسي الشاعر الجاهلي في وصف ناقته التي تسير به إلى أرض الحبيبة:
هل تُبلِّغُني دارَهـــــا شَدَنيَّةٌ
لُعِنتْ بمحروم الشَّراب مُصرَّمِ
خطّارةٌ غِبُّ السُّرى زيّافةٌ
تطِسُ الإكـــــامَ بوَخْذِ خُفٍّ ميثمِ
أي: هل توصلني إلى دار الحبيبة ناقة شدنية (نسبة إلى قبيلة أو أرض) قُطع لبنُها، تخطِر بذنبها (ترفعه) تسير زيّافة (متبخترة)، شديدة الوطء على الأرض.
وفي العصر الحديث نسج الشعراء السعوديون أجمل القصائد الفصيحة والنبطية في وصف الإبل وتصوير طباعها والتعبير عن مشاعرهم تجاهها وخاصة حبهم لها.
ونجد بعض المثقفين العرب من قصيري النظر يرى أن اهتمام الأدباء والمثقفين السعوديين بالإبل يحط من مكانتهم الثقافية، لذلك يستنكفون عن قراءة منجزاتهم الأدبية والثقافية، وهذا الأمر واضح، وقد نبّه عليه الأديب العربي الكبير الطيب صالح، واستنكر هذه النظرة الفوقية لدى بعض الكتاب العرب تجاه أشقائهم السعوديين، بحجة أنهم لا يمتلكون أدوات الكتابة الفنية والثقافية.
وفي الختام نقول: كانت رؤية الشاعر السعودي للإبل تفتّح مكامن إبداعه الشعري، فتجود قريحته بأجمل المعاني الشعرية المسكوبة في أعذب الألفاظ، ومن الشعراء السعوديين الذين أسرهم جمال الإبل فأنشدوا فيها أشعاراً عذبة سعد بن جدلان وعبد الله بن زويبن وخلف بن هذال وغيرهم.