أثناء طفولتي كنت مدمناً على مشاهدة الأفلام في السينما، وكنت أذهب وحدي وعمري 10 سنوات إلى سينما ميراندا القريبة من بيتنا في حي مصر القديمة بالقاهرة.
وكنت أشاهد الأفلام الغنائية المصرية وأرى عبد الحليم حافظ يسير وحده على كورنيش النيل ويبدأ في الغناء بصوت عالٍ في الشارع. طبعاً لو البوليس شاهد شخصاً يمشي وحده ويغني بصوت عالٍ كان من الممكن أن يقبض عليه ويرسله إلى مستشفى المجانين فوراً. لكني كنت أتعجب أكثر، ليس فقط لأنه يغني وحده بصوت عالٍ، بل لأنني فجأة أسمع فرقة موسيقية تعزف معه نغمات الأغنية دون أن أشاهد تلك الفرقة. وكنت أقول لنفسي: أين الفرقة الموسيقية؟ هل من المحتمل أنها خلف شاشة السينما؟
...
وعندما كبرت، عرفت أنَّ الأغنية والموسيقى غير المنظورة ومنظر كورنيش النيل الجميل، كل هذا لأجل تجميل الواقع. لأن إحدى وظائف السينما هي تجميل الواقع، وجعل كل فتاة تشاهد عبد الحليم حافظ يغني تلك الأغنية العاطفية الجميلة تقع في حب عبد الحليم وتتمنى أن يكون خطيبها أو زوجها المستقبلي يغني لها بصوت عالٍ على الكورنيش وتسمع الفرقة الموسيقية أيضاً. وطبعاً تصطدم بالواقع عندما يتقدم لها عريس أصلع وله كرش يسبقه بخطوتين، لكنه عريس لقطة لأنه يملك شقة وسيارة، ولا يهم أنه لا علاقة له بالغناء أو بعبد الحليم حافظ.
...
ومؤخراً اكتشفت أنَّ معظم أحداث التاريخ عبارة عن فيلم سينمائي لتجميل الواقع، وخلق أبطال من الهواء. فتجد أن أبطال التاريخ أشبه بجيمس بوند. على سبيل المثال، كنت أشاهد فيلماً حديثاً عن نابليون بونابرت، وطبعاً نصف الفيلم مبني على بعض الحقائق التاريخية عن نابليون والباقي لتجميل الواقع. ومن ضمن الأحداث الخرافية في الفيلم أن نابليون ترك ميدان القتال في روسيا لكي يعود إلى فرنسا عندما وصله خبر أن جوزفين زوجته تخونه مع شخص آخر. وطبعاً لم يحدث أن ترك نابليون روسيا من أجل أن يضبط جوزفين مع عشيقها، ولكن تم اختراع هذا الحدث لكي يظهر نابليون كرجل "جدع" يخاف على شرفه، و"طز" في روسيا وفي جيش فرنسا الذي يقوده، حتى لو أدى ذلك إلى هزيمة مخزية لنابليون وجيشه على أرض روسيا.
...
ومن الأحداث التاريخية التي تعلمناها منذ طفولتنا هي بطولة طارق بن زياد عندما هبط بقواته على شاطئ الأندلس، ثم قام بحرق أسطوله وقال لجنوده بعد حرق السفن: "العدو أمامكم والبحر خلفكم فأين المفر". وأخذت أتساءل: أي قائد مجنون هذا الذي يحرق أسطوله؟ وأي نوع من الجنود الجبناء كان يقود؟ هل كانوا بهذا الجبن من القتال لذلك خشي عليهم من الفرار فأحرق أسطوله؟
ثم من قال له إن "العدو" أمامهم؟ الإسبان لم يكونوا أعداء أبداً، ولكن طارق بن زياد قرر غزو إسبانيا ببساطة واعتبر أن أي مقاومة لهذا الغزو هي عمل عدواني تجاه المسلمين الغزاة. لذلك أشك في أنه قام بحرق أسطوله، لكنها مرة أخرى فيلم عربي لتجميل صورة البطل طارق بن زياد، الذي لا يحتاج إلى أي تجميل. فقد نجح في غزو إسبانيا ووصل المسلمون إلى حدود فرنسا، وحتى اليوم المضيق الذي يصل البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي يسمى مضيق جبل طارق.
...
والتاريخ حول العالم مليء بقصص خيالية. وعلى سبيل المثال، من القصص التي لا تدخل العقل أيضاً قصة "وامعتصماه". وهي قصة عن امرأة مسلمة في مدينة عمورية (أنطاليا – تركيا حالياً) تعرضت للإهانة من جانب جندي رومي بيزنطي، فصرخت قائلة "وامعتصماه"، حيث استنجدت بالخليفة العباسي المعتصم بالله. فلما سمع المعتصم بالله في قصره في بغداد عن إهانة امرأة مسلمة في عمورية، قام بقيادة جيش ضخم قاده بنفسه من بغداد إلى عمورية، وقام بالاستيلاء على عمورية، وكانت من أهم مدن الإمبراطورية البيزنطية.
تعالوا نستخدم فلتر العقل لتحليل تلك القصة:
أولاً: لم يكن هناك مسلمون بعد في عمورية في هذا الوقت، حيث لم يكن قد دخلها الإسلام بعد.
ثانياً: بافتراض أنه كانت هناك امرأة مسلمة تعرضت لإهانة جندي بيزنطي، كيف عرفت اسم الخليفة العباسي حتى تصرخ باسمه؟
ثالثاً: عندما صرخت باسمه، هل كانت تصرخ باللغة العربية أو اللغة الرومية؟
رابعاً: الدولة العباسية كانت في أوجها وكانت أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. فهل يعقل أن الخليفة المعتصم بالله يقود جيشاً عرمرماً (حلوة عرمرم هذه!) لأنه سمع أن جندياً بيزنطياً أهان امرأة مسلمة؟ أم أنه قام بغزو عمورية لتوسيع حدود إمبراطوريته؟
ولكن كل الغرض من القصة هو بيان مدى نخوة وبطولة الخليفة المسلم، ولإخفاء الحقيقة بأنه قام بالاستيلاء على عمورية من الإمبراطورية البيزنطية بغرض التوسع وليس بغرض نجدة امرأة مسلمة.
...
ولو أخذت تغربل معظم القصص التاريخية باستخدام فلتر العقل لاكتشفت أنك أمام أفلام سينمائية من إخراج حسن الإمام. ولقد فكرت أنا جدياً في كتابة بحث كبير جداً لغربلة كل الأحداث التاريخية المهمة وحتى المقدس منها وتمريرها على فلتر العقل والمنطق، ولكني عدلت عن الفكرة لأنني لست مستغنياً عن عمري!
...
"لا تفسد قصة جميلة بقول الحقيقة".
(مارك توين)