مع أبي القاسم الشابي (1909-1934)، يظلّ محمود المسعدي (1911-2005) الأكثر حضورا في الحياة الثقافة التونسية. وخلافا لصاحب "أغاني الحياة" الذي لم يعرف الشهرة إلاّ بعد وفاته بحوالي عقدين من الزمن، تمتع محمود المسعدي بحظوة كبيرة لم يحظى بها أحد غيره من أدباء وشعراء عصره. فقد نال أرفع الجوائز، والأوسمة، وتقلد مناصب رفيعة إذ كان وزيرا للتعليم ثم وزيرا الثقافة في عهد بورقيبة، ورئيسا للبرلمان في عهد بن علي.
كما أن كتابيه "السد"، و"حدث أبو هريرة قال..." ظلا مُدْرجين في برامج المعاهد الثانوية. وما زالا يتمتعان بهذا الامتياز إلى حدّ هذه الساعة. إضافة إلى كل هذا، سعى البعض من الكتاب، وجلهم من الجامعيين إلى تقليد المسعدي في أسلوبه، وفي لغته، جاعلين منه مثالا أوحد في فنّ الكتابة. غير أن أعمالهم جاءت جافة وركيكة في محتواها وفي أسلوبها، وثقيلة في تراكيبها، وفقيرة في معانيها. لذلك يرى الكتّاب من الأجيال الجديدة أن المسعدي ظاهرة فريدة من نوعها، لكنها ظاهرة قديمة لا علاقة لها بواقع اليوم. لذا هم يعتقدون أنه من الضروري أن يتخلص الأدب التونسي من مروث المسعدي الذي بات بمثابة العقبة الكأداء التي تحُولُ بينهم وبين الحصول على المكانة التي إليها يطمحون.
وكان محمود المسعدي قد توقّف عن الكتابة في الأربعينات من القرن الماضي لينشغل بالنضال السياسي ضمن الحزب الحر الدستوري بزعامة الحبيب بورقيبة، وبالنضال النقابي في صلب الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان يتزعمه فرحات حشاد الذي اغتالته السلطات الاستعمارية في الخامس من شهر ديسمبر-كانون الأول 1952، أي في بداية آخر معركة قادت إلى استقلال البلاد في عام1956 .
وقبل بلوغه سنّ الثمانين اعتزل محمود المسعدي الحياة السياسية لينعزل في بيته بضاحية باردو، القريبة من مبنى البرلمان مُكتفيا باستقبال أصدقائه، والمعجبين به. ولم يكن يترك عزلته إلاّ في ما ندر. وآخر مرة ظهر فيها علنا تعود إلى يوم الاثنين27 مايو أيار1996 . ففي ذلك اليوم، نظم "بيت الحكمة" التونسي بالاشتراك مع السفارة الهولندية بالعاصمة التونسية حفل تكريم له احتفاء بصدور ترجمة نصه :"مولد النسيان" الذي يعود إلى الثلاثينات من القرن الماضي. وظل محمود المسعدي يعيش في عزلته وصمته إلى أن رحل عن الدنيا في السادس عشر من شهر ديسمبر -كانون الأول2004 .
**
وكان محمود المسعدي قد أبصر النور سنة1911، وهو نفس العام الذي شهد مولد نجيب محفوظ. وتشاء مصادفات التاريخ أن تعيش تونس في نفس العام المذكور، أحداثا هامة إذ شهدت العاصمة مظاهرات حاشدة، واصطدامات عنيفة بين الوطنيين وجيش الحماية الفرنسية. وكانت قرية تازركة الواقعة في منطقة "الوطن القبليّ شمال شرقي البلاد، والتي هي مسقط رأس الكاتب، مسرحا لأحداث أليمة تمثلت في قمع وحشي لأهاليها جراء مناهضتهم للسلطة الاستعمارية. وكان والد المسعدي رجل دين وقور يتمتع باحترام وتقدير أهالي البلدة الزراعية الصغيرة الواقعة على بعد مسافة قصيرة من البحر. وكان يُعلّم الصبيان القرآن، ويصلي بالناس في المسجد . مع هذا الأب الذي "ربّاه على "أن الوجود مغامرة طهارة، جزاؤها طمأنينة النفس الراضية في عالم أسمى فأسمى"، رتّل الصبي طفولته الأولى على أنغام الآيات البينات، وعلى ترجيع الحديث. ونحن لا نعثر على أصداء لهذه الطفولة إلاّ في نص حمل عنوان:" السندباد والظهارة"، وفيه يصف المسعدي أجواء البيت العائلي، والكتاتيب التي كان يتردد عليها:" يتذكر أنه عرف كثيرا من معاطن الحيوان وشمله كثير من حظائر الناس في بيت أبيه أولا في قريته، عندما كان صغيرا ينام وأمه وأبيه واخوته السبعة في فراش واحد، فيصبح وعليه لعاب أخته وبول أخيه الأصغر، ويقول كبشار: هذه ثمرة صلة الرحم. ثم في الكتّاب حين كان صبيا يلقّن القرآن، ويجلس في الاشتاء والصيف في سقيفة ضيّقة تراكم فيها خمسون صبيا ليس منهم مُتنفّس باخر، أو مُطلقُ رجليه بالكلع والريح، فائح يُحامل جسده وأمعاءه حتى يمتلئ الكتّابُ نكهة وغيما".
في سن العاشرة، انتسب محمود المسعدي إلى المدرسة العصرية ليتعلم اللغة الفرنسية. وسرعان ما أبدى موهبة عالية في دراسته خولت له وهو في سن السادسة عشرة الالتحاق بالمدرسة "الصادقية" بالعاصمة، والتي كان قد أسّسها المصلح الكبير خير الدين باشا بهدف تكوين نخبة منفتحة على حضارة العصر، وعلى العلوم الحديثة. وقد تخرج من هذه المدرسة العريقة أبرز الشخصيات السياسية والفكرية والثقافية من أمثال الزعيم الحبيب بورقيبة، والدكتور محمود الماطري، والأستاذ علي البلهوان، وغيرهم من الشخصيات التي لعبت دورا أساسيا في النضال من أجبل الاستقلال، وفي بناء الدولة الجديدة. وخلال سنوات الدراسة في المدرسة المذكورة، أظهر الفتى الموهوب ولعا بالمطالعة فراح يلتهم كل ما يقع بين يديه من كتب في شتى أنواع المعارف ليحصل في تلك الفترة المبكرة من حياته على تكوين صلب في الإنسانيات بالخصوص. ففي مجال الأدب العربي قرأ مؤلفات الجاحظ وأبي فرج الاصبهاني، وأبي حيان التوحيدي، وأبي نواس، والغزالي، وغيرهم. أما في الأدب الفرنسي فقد قرأ الكلاسيكيين من أمثال موليير، وراسين، وكورناي، وشاتوبريان، وفيكتور هوغو، وسانت-بوف...
وكان محمود المسعدي لا يزال طالبا في المدرسة الصادقية لما كتب أول قصة سوف ينسى عنوانها في ما بعد. كما أنه لم يحتفظ بها، وكل ما يذكره بشأنها هو أن موضوعها كان يتصل بثورة ابن الأشعث في القيروان، وأنه أمضاها باسم مستعار، ونشرها في عدد من أعداد مجلة "العالم الأدبي" التي كانت أكثر المجلات الأدبية رواجا في فترة ما بين الحربين، والتي كان قد أسّسها الصحافي والناقد زين العابدين السنوسي (1901-1965) الذي إليه يعود الفضل في اكتشاف وتشجيع المواهب الأدبية الصاعدة مثل الشابي وعلي الدوعاجي ومحمد العريبي ومصطفى خريف وغيرهم.
بعد حصوله على شهادة الباكلوريا بامتياز، سافر الشاب محمود المسعدي في مطلع الثلاثينات من القرن الماضي إلى باريس لمواصلة تعليمه العالي في جامعة "السربون" الشهيرة. وفي تلك الفترة كانت فرنسا تمر بأزمة اقتصادية خانقة استغلتها القوى والأحزاب اليمينية المتطرفة للهيمنة على المشهد السياسي والاجتماعي. أما على المستوى الأدبي والفكري والفني فقد شهدت فرنسا نشاطات وأحداثا مُنقطعة النظير. فقد كان السورياليون بزعامة أندريه بروتون ينشرون بيانتهم ونصوصهم المناهضة للثقافة القديمة، داعين إلى ثقافة جديدة معادية للبورجوازية الجامدة، المعادية للحرية ولكرامة الانسان، والتي لم تكن تتردد في خوض الحروب المدمرة للحفاظ على قوتها ونفوذها. وكان بابلو بيكاسيو في قمة مجده الفني. وكان جيمس جويس الذي كان قد ترك زيوريخ ليمضي سنوات طويلة في العاصمة الفرنسية مُنشغلا بكتابة أثره الأخير :"يقظة فينيغن". ومُتنقلا بين مقاهي "الحي اللاتيني"، كان ارنست همنغاوي يُخطّطُ لكتابة روابته البديعة:" باريس حفلة مُتنقلة". وفي شقتها، كانت الأمريكية جورتريد شتاين تستقبل من كانت تسميهم ب"أبناء الجيل الضائع" الهاربين من الولايات المتحدة الأمريكية بحثا عن آفاق جديدة في الكتابة وفي الحياة. وعائدا ما "الأندوشين"(فيتنام اليوم)، أصدر أندريه مالرو روايته "الوضع البشري"، وفيها رسم صورة رائعة عن بوادر ثورة الشيوعيين في الصين. أما لوي فارديناد سيلين فقد فجّر في الوسط الأدبي رائعته :"سفرة إلى آخر الليل" التي أدان فيها بشاعة الحرب الكونية الأولى، وتدهور الحضارة الغربية بلغة سردية لم يسبق لها مثيل. وهكذا وجد الشاب محمود المسعدي المُتعطش للمعارف نفسه في جو ثقافي وفكري وفني يسمح له بالانفتاح على كل ما يُفيده وينفعه في بداية مسيرته الأدبية. وأحيانا كان يهجر المدارج الجامعية لأيام عدة هربا من المحاضرات "الثقيلة المضجرة" ليتابع بانتباه ما كان يجدّ في الحياة الثقافية الفرنسية، وكلّ ما يشغل رموزها الكبيرة تماما مثلما كان يفعل توفيق الحكيم. والذين عرفوه في تلك الفترة، ذكروا أنه كان يعيش حياة حرة، لا تختلف عن حياة فناني وشعراء "الحي اللاتيني"، مُلتهما الروايات والكتب الفكرية الجديدة، مُظهرا اعجابا كبيرا بالمواهب الصاعدة أمثال أندريه مالرو، ولوي فارديناد سيلين، مُعمّقا معرفته بأعمال كل من أندريه جيد، وبول فاليري. ثم لم يلبث أن اتسع فضوله المعرفي ليقيل على قراءة أعمال الإغريق والرومان والفلاسفة الألمان خصوصا شوبنهاور، ونيتشه، وعلى مسرحيات شكسبير، والنرويجي ابسن، والهندي طاغور، والباكستاني محمد اقبال. وعن هذا الأخير، كتب يقول :"حاول محمد اقبال أن يمحص خصوصية الذات الفردية، وامكاناتها، وقدرتها، وطاقتها. فالذات الإنسانية هي ذات خاصة فردية، متميزة عن سائر الذوات من حيث استقال الإرادة والمسؤولية".
ولعل اطلاعه على أعمال محمد اقبال هو الذي دفع محمود المسعدي إلى إعادة اكتشاف الشرق، لا الشرق العربي، بل ذلك الشرق الشاسع الممتد إلى الهند والصين بآدابه وفلسفاته وطقوسه الروحية والدينية ولغاته وأساطيره وملاحمه. وفي نصه :"المسافر" هو يرى ّأن سر بقاء الشرق هو "هذا النفي لكل حركة واضطراب، وهذا الخلاص من كل زمان: تنفيها وتخلص منها أهرام الفراعنة واطمئنان بوذا وايمان الأنبياء...وهل أعلى وأسمى من هذا التماسك من حيرة النفس، وهذه الثقة بالحكمة، وهذا الثبات للتحول والتقلب؟ وهل أعظم من هذه الحكمة تنحو الأحداث الزائلة وتثبت وتبقى وحدها قائمة الذات؟".
**
تحت إشراف المستشرق المعروف بلاشير، أعدّ محمود المسعدي أطروحة عن أبي نواس وشعره. وعند تخرجه سنة1936، عاد إلى تونس ليعمل أستاذا للغة العربية في المعاهد الثانوية. وفي هذه الفترة اقترب من الحركة الوطنية والنقابية، مُضطلعا بمسؤوليات عدة ليكون نصيبه الاضطهاد والابعاد من قبل السلطات الاستعمارية. أما في المجال الأدبي والثقافي فقد كان غزير ومتنوع الإنتاج إذ أشرف بين عامي1944 و1947، على رئاسة تحرير مجلة "المباحث" الأدبية، وفيها نشر العديد من المقالات والدراسات التي تتناول "مشكلة المعرفة" في حكمة القدماء وفلسفة المحدثين"، و"مشكلة المعرفة عند الغزالي":" هو ذا الغزالي قصة ومأساة رائعة هي مشكلة ومعضلة. مشكلة قدرة الانسان على العلم والمعرفة. هو ذا الغزالي يفني العمر في طلب الحقيقة، ويتيه السنين الطويلة في أصقاع الفكر وخلاء النفس، ويجد المرارة والحيرة والظمأ، ويتردد في بين القحط والماء، والثقة والشك، كالصدى بين الجبلين في الوادي. وتقع نفسه على جميع علوم عصره، وجميع المعارف ومذاهب الفكر، فهي عليها كالنار على الحديد، تهب فتذيب وتفني، وتذيب الباطل ذوبا شعاعا، ولا تثبت لها إلاّ نواة الحق الصلبة التي لا تصيبها نار فكر ولا يأخذها شك أو ريبة. وقد كادت النفس أن تُذيب كل شيء عند الغزالي، وجاءه الظمأ المميت، وأدركه اليأس الذي لا ينجو منه إلاّ ذوو القوة والبأس".
وفي "المباحث"، كتب المسعدي دراسة عن أبي العتاهية كما يراه صاحب كتاب "الأغاني" أبي فرج الاصبهاني، وفيها حاول أن يُثبتَ كيف أن "تزهّدَ أبي العتاهية لم يكن يعكسُ معاني الجمود النفساني والوعظ القروي والحكمة العامية"، بل كان مُتّصلا اتصالا وثيقا ب"معنى مأساة النفس الطموح، والقطع الذي لا يني ولا يقف، والجوع الذي لا يسكن، والظمأ الذي لا يشفى، إلى وجه من وجوه المأساة البشرية العامة...إلى الأدب والأدب مأساة أو لا يكون".
**
وتعتبر فترة الأربعينات من القرن الماضي أخصب فترة في مسيرة المسعدي الإبداعية والفكرية إذ أنه كتب فيها أهمّ اعماله التي سوف تحقق له الشهرة في ما بعد مثل "السد"، و"حدث أ بو هريرة قال..."، و"السندباد والطهارة"، و"مولد النسيان". وبعد حصول تونس على استقلالها عام1956، انقطع محمود المسعدي عن الكتابة انقطاعا يكاد يكون كليا، ليتقلّد العديد من المناصب الرفيعة في الدولة الجديدة. لكنه ظل حاضرا في المشهد الثقافي، متمتعا بمكانة رفيعة لم ينعم بها أيّ أحد آخر. وما يختص به هو أن كان فريدا في لغته وفي أسلوبه وفي مضامين أعماله التي جاءت مختلفة عن كل الأعمال الأدبية الأخرى التي ظهرت في عصره. وإذا ما نحن شئنا العثور على أصداء لأعماله فإنه يجدر بنا أن نعود إلى آثار القدماء كالتوحيدي، والاصفهاني، وابن المقفع، وابن عربي، والنفري. كما يمكننا أن نتبين تشابها جليا أحيانا، وخفيّا أحيانا أخرى بين أشكال ما يكنبه، وبين القصص الذهنية كما هو الحال عند ابن طفيل، والسهروردي، وبعض المتصوفة الآخرين.
وما يثير انتباهنا عند محمود المسعدي هو لغته التي وصفها هو نفسه قائلا بأنها " كلها رمز لطيف" إذ أنه كان يرى أن اللغة العربية "تكره التكرار والتحليل والالحاح والتفهيم والثقيل". وهي" لا تليق إلاّ بذوي الافهام الخاطفة وذوي الوجدان الحساس المتيقظ". وهي "ترسل الكلام وَثَبَات كوثبات الطير العتيد، وتقفز بالقارئ قفزا تطفر بها طفرا طاوية ما يُسْتغنى عنه في تأدية ثنايا المعاني المفهومة". أما عن علاقة هذه اللغة بالمواضيع التي يطرقها فيقول المسعدي :"حاولت في كل ما أكتب ألاّ أكون "معنى" الشخص، أو الشخصية الوجودية، معنى فرديّا محدودا مقصورا عليه كفرد، وألاّ تكون الجمل الجوهرية من الكلام محدودة المعنى، بل كانت دائما رغبتي أن يكون الشخص خلاصة أشخاص، والجملة حُبْلى بمعان عدة".
وفي كتابات المسعدي تحضر اللغة حضورا طاغيا حتى أنها أحيانا تغطي على الشخصيات المحورية. فلا غيلان، بطل "السد"، ولا أبو هريرة، بطل "حدث أبو هريرة قال..."ولا مدين، الراوي في "مولد النسيان"، يمتلكون القدرة على كبْح جماح اللغة الهادرة، والسيطرة عليها.
فهل هو قصد من خلال كل هذا اثبات امتلاكه لناصية اللغة العربية مُعيدا لها مجدها القديم الذي فقدته في عصور الانحطاط المظلمة ؟ أم أنه كان يسعى إلى تحقيق هدف شغله مبكرا. ويتمثل ذلك في إعادة الاعتبار للغة العربية في فترة كان فيها الاستعمار يخطط لفرنسة البلاد، وتكوين نخبة تونسية مُنفصلة عن تراثها، وعن ثقافتها، وعن جذورها، وعن هويتها؟ بالإضافة إلى ذلك، كان شيوخ جامع الزيتونة مشدودين إلى الماضي، رافضين لأي شكل من أشكال التجديد لتأتي لغتهم مُحنطة وفاقدة للحيوية، ومُنفصلة عن الواقع المتحول دائما. وربما لهذا السبب، انصبّ جهد المسعدي منذ البداية على التصدي للظاهرتين المذكورتين. أي الظاهرة الفرنكفونية التي ترى أن اللغة العربية لغة قديمة مثل اللاتينية. لذا فإن مآلاها الانقراض والموت، والظاهرة السلفية التي ترفض إزاحة غبار عصور الجمود والانحطاط عن اللغة العربية لكي تستعيد صلتها بالحياة الجديدة. لذا جاءت لغة محمود المسعدي جارفة، ومُفعمة بالتحدي وسكونة بالطموح إلى التجديد والتغيير.
**
بالنسبة لمفهوم الأدب، يرى محمود المسعدي أن جميع الأمم في مختلف العصور فهمت الأدب ك"مأساة، مأساة الانسان المتردد بين المثل السامية، والنزعة الحيوانية، المعذب بسبب آلام العجز والشعور بالعجز، أمام القضاء، أمام الموت، أمام الحياة، أمام الغيب، أمام الآلهة، أمام النفس" ويُحيلنا صاحب "السد" إلى ابن المقفع الذي ترجم "كليلة ودمنة"، وما فيه من "روعة
المأساة الانسانية، وما يملأ جوانبه من صرخات الحيرة الإنسانية. كما يتحدث عن أبي نواس الذي "قضى كامل حياته في مرارة الغياب، واستبق الموت مُنشدا في شعره مأساة الانسان الذي تعلب به الأقدار". وهناك أيضا أبو العتاهية وموته، والجاحظ وفكره النيّر، وابن الرومي وطبيعته الخلاقة، والمتنبي وطموحه المتوثب، والغزالي وآلام المعرفة، والمعري وعواصف الهول، وابن خلدون وأفول الحضارات...
**
في أعماله، اهتم محمود المسعدي بمواضيع فلسفية ووجودية. ففي "السد" هو يتناول مسألة وجودية عاشها رجل يدعى غيلان في مرحلة مُعينة من حياته "عندما سَلَكَ مسلكا واتخذ منهجا للاضطلاع بمسألة الوجود". وقد اختار غيلان أن يكون رجل عمل وفعل، وأن يكون متمردا على كل ما يدعو إلى الاستسلام والاذعان، أو إلى الرضا بما هو "موجود كما هو موجود". ويشبه غيلان سيزيف في الأسطورة اليونانية في بعض النواحي، ويختلف عنه في نواح أخرى. فحين يشرع في بناء السد، تُعارضه ميمونة التي لا ترى في مثل هذا العمل سوى العناد والمُكابرة. بل هي تذهب إلى أبعد من ذلك، زاعمة أن سعي الانسان بهدف الارتفاع عن منزلته البشرية هو في الحقيقة "نوع من الكفر"، ومن العناد المدمر للنفس. ويتواصل الصراع عنيفا بين غيلان وميمونة إلى أن ينهار السد، وتتهشم صخور الجبل "الأجرد الغليظ". ومعنى ذلك أن أحلام غيلان في "تحقيق رسالته في الوجود على أكمل صورة" انهارت وتحطمت ليكون الفشل الذريع نهاية مأساوية لمشروع الطموح.
ويرى بعض النقاد أن "السد" يعكس تأثيرا بالفلسفة الوجودية التي سوف تشهد مع كل من سارتر وكامو انتشارا واسعا بعد الحرب الكونية الثانية، وبها سوف يتأثر العديد من الكتاب في جميع أنحاء العالم. إلاّ أن محمود المسعدي يرى أن ّأثره المذكور يعكس روح جيله، وهو جيل "بذل من الاجتهاد في الرأي، والسعي من أجل استجلاء حقيقة منزلة الانسان ورسالته في الكون، كما يتصورها الإسلام الذي يدعو في رسالته الانسان إلى أن يكون مسؤولا، وإلى أن يكون مبدعا، وإلاّ كان ناقص الايمان". ويضيف المسعدي موضحا أن المعنى الأساسي الذي قصده من خلال "السد" هو ألاّ يكون الانسان خليفة الله على الأرض إلاّ إذا ما أظهر قدرته على الابداع من خلال "العمل الصالح" الذي يشمل اصلاح المنزلة البشرية، وخلق ما يرفع منزلة الانسان على الدوام، درجة بعد أخرى، بحيث يسمو عن المقومات المادية والاقتصادية، ويبلغ الأبعاد المعنوية والأخلاقية والفكرية والروحية.
أما عن "حدث أبو هريرة قال..." فلا ينكر المسعدي أنه كتبه تحت تأثير مؤلف نيتشه الشهير :"هكذا تكلم زرادشت"، مُواصلا الحفر في الموضوع نفسه. وهذا الكتاب هو بحسب صاحبه "قصة شخص خيالي في شكل سلسلة أحاديث بأسانيدها الخيالية أيضا على غرار الأدب القديم".
ويخوض أبو هريرة تجربة وجودية لا لصالح الآخرين مثلما هو حال غيلان، بل لصالح ذاته. وها أنه يمضي من تجربة إلى أخرى، ويسافر من مكان إلى آخر، ويتنقل من وضع إلى وضع، مُتقلبا بين النور والظلمات، وبين الحيرة والاطمئنان، وبين البؤس والنعيم، وبين السعادة والشقاء، وبين الحقارة والعظمة ليدرك أخيرا أن الكيان البشري "صيرورة مطلقة لا تبتدأ ولا تنتهي، ممتدة طورا فطورا حتى الممات"...وفي البداية يعيش أبو هريرة حياة خاملة جامدة، محروما من فتنة الوجود، ومن روعة الطبيعة، ثم يطلع عليه الفجر ذات يوم فإذا بصاحب له يدعى أبو المدائن يأخذه إلى الصحراء ليكتشف جمالا لم يألفه من قبل على الاطلاق...جمال فتى وفتاة في "زيّ آدم وحواء" يرقصان على كثيب من الرمل. وهنا تبدأ مغامرة أبو هريرة الوجودية فيمر أولا بطور التهاب الشهوة الجسدية، ثم بطور الشهور الحسية، ثم بطور الحيرة والشك ليبلغ في النهاية طور الهول والموت...
لكن لماذا انقطع المسعدي عن الكتابة منذ أربعينات القرن الماضي؟ البعض يحيبون عن هذا السؤال قائلين بأن المناصب السياسية شغلت صاحب "السد" فلم يعد مُهتما بالمجد الأدبي، بل بالمجد السياسي. أما هو فيجيب بشكل مُبطن، مستندا إلى الناقد الفرنسي الكبير سانت بوف الذي يقول :"ليس الشعر في أن نقول كل شيء، بل في أن ندعَ النفسَ تحلم بكل شيء". لذا يمكن القول أن الكتابة عند محمود المسعدي هي في الحقيقة حلم مفتوح على الأثر الأدبي الخالد، أكثر مما هي مشروع أدبي مكتمل...وفي هذا الحلم المفتوح وضع المسعدي كل حصاده الفكري وتجربته الإبداعية التي تميزت بالدقة والاختصار والتكثيف الشعري.