قبل اكتشاف النفط، كانت دول الخليج تعيش في إطار اقتصادي بسيط لكنه شديد التماسك، حيث كانت كل تفاصيل الحياة اليومية تقوم على عمل أبناء البلد، من الغوص وتجارة اللؤلؤ إلى الزراعة والصيد والحرف اليدوية. وكانت أسماء العائلات ترتبط بالمهن التي مارسوها، من النهّام الذي يصدح بصوته فوق موج البحر، إلى المجدمي الذي يقود الرجال تحت لواء النوخذة، والطوّاش الذي يقتنص أجود اللآلئ، والقلاف الذي ينحت الخشب ليصنع سفن الخليج، والخباز والحداد والبنّاي والعطّار، كلهم كانوا جزءاً من الهوية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الخليجي. وفي تلك الفترة كانت الأمية تتجاوز 80 بالمئة في بعض مناطق الخليج، والتعليم يكاد يكون بدائياً، بينما لم تتجاوز ميزانيات الدول الخليجية مجتمعة عشرات الملايين من الريالات، وكانت البنية التحتية ضعيفة، وعدد الوافدين في عموم الخليج لا يتجاوز 20 ألف شخص يعمل أغلبهم في مهن بسيطة لا تتطلب مهارات عليا. وبالرغم من بساطة الحياة وشح الموارد، كان الاقتصاد مكتفياً بذاته، وكانت اليد العاملة المحلية هي العنصر الأساسي في كل المهن.
لكن مع اكتشاف النفط وبداية تصديره في الأربعينيات والخمسينيات، تغيّر المشهد بالكامل. فقد قفز إنتاج السعودية من 1.5 مليون برميل يومياً عام 1960 إلى أكثر من 10 ملايين اليوم، وبلغت إيراداتها النفطية في بعض السنوات ما يقارب 326 مليار دولار. وفي الكويت ارتفعت الإيرادات من 16 مليون روبية عام 1946 إلى 90 مليار دولار في سنوات الذروة، وفي الإمارات تجاوزت الإيرادات النفطية 120 مليار دولار، وقف الناتج المحلي عدة مرات بعد 1971. وبفضل النفط قفزت ميزانيات دول الخليج إلى مستويات غير مسبوقة، فسجّلت السعودية ميزانية تجاوزت تريليون ريال في 2022، بينما تنفذ دول الخليج اليوم مشاريع استراتيجية وتنموية ضخمة تتجاوز قيمتها أكثر من تريليوني دولار تشمل مدن المستقبل واللوجستيات والطاقة المتجددة والموانئ والمطارات والقطارات والمدن السياحية والاقتصاد الرقمي.
هذه الوفرة المالية الهائلة اصطدمت بواقع آخر: محدودية الكفاءات الوطنية. فلم يكن التعليم بعد قد تطوّر ليخدم احتياجات دولة حديثة، ولم تكن الجامعات موجودة إلا في نطاق محدود، كما أن نسبة كبيرة من المواطنين لم تكن تملك المهارات الإدارية والهندسية والطبية والمالية التي تحتاجها مرحلة التنمية السريعة. ولهذا بدأت دول الخليج في الخمسينيات والستينيات تستقطب آلاف المدرسين والمهندسين والأطباء والإداريين من مصر والأردن وسوريا ولبنان، ثم توسع الاستقدام لاحقاً ليشمل الهند وباكستان والفلبين ودولاً آسيوية أخرى، حتى وصل عدد الوافدين في الخليج اليوم إلى أكثر من 30 مليون شخص، يشكلون ما بين 48 بالمئة و89 بالمئة من السكان، كما في الإمارات التي بلغت نسبة الوافدين فيها 89 بالمئة وفي قطر 88 بالمئة، وفي الكويت حوالي 70 بالمئة، وفي السعودية نحو 40 بالمئة من السكان.
ومع توسع الدولة الحديثة تحولت العمالة الوافدة من حل مؤقت إلى بنية ثابتة في سوق العمل، حيث أصبحت تشغل أكثر من 70 بالمئة من وظائف القطاع الخاص الخليجي، وفي السعودية وحدها يعمل أكثر من 7 ملايين وافد، 60 بالمئة منهم يتقاضون أقل من 2000 ريال، ورواتبهم منخفضة إلى درجة جعلت القطاع الخاص يفضل توظيفهم على توظيف المواطنين الذين ترتفع تكلفة معيشتهم ومتطلباتهم الأساسية مثل السكن والتعليم والصحة. وفي الوقت نفسه شهدت أسعار العقار في الخليج ارتفاعاً تجاوز 200 بالمئة خلال 15 عاماً، وقفزت الإيجارات إلى مستويات استهلكت نصف دخل المواطن تقريباً، بينما ظلت الرواتب في القطاع الخاص عند مستويات منخفضة لا تتناسب مع معدلات التضخم ولا مع تكلفة المعيشة.
هذا النمو غير المتوازن خلق فجوة واسعة بين الاقتصاد الكلي الذي يحقق ناتجاً يفوق 2.2 تريليون دولار وبين دخل المواطن الذي لا يعكس حجم هذا الاقتصاد الهائل. كما أدّى الاعتماد الواسع على العمالة الرخيصة إلى بقاء الإنتاجية منخفضة في العديد من القطاعات، لأن الشركات اعتادت على نموذج الكلفة الرخيصة بدلاً من الاستثمار في تدريب العمالة الوطنية أو تطوير التقنيات الحديثة. وأظهرت تقارير اقتصادية أن الفارق بين تكلفة العامل الوافد والمواطن يصل إلى 300 بالمئة في بعض الوظائف، ما جعل القطاع الخاص يستفيد من العمالة الرخيصة لكنه في الوقت نفسه خلق تحديات أمام المواطنين الباحثين عن عمل، ورفع معدلات البطالة بين الشباب، حيث تتراوح البطالة بين 6 بالمئة و9 بالمئة في العموم، وترتفع بين الشابات إلى حوالي 20 بالمئة في بعض دول الخليج.
ومع توسع المشاريع الضخمة مثل نيوم والبحر الأحمر والقدية وطموحات دبي 2040 ومشاريع الدوحة والبحرين ومسقط، أصبحت دول الخليج اليوم أمام لحظة حقيقية لإعادة تشكيل سوق العمل. فاقتصاد المستقبل لن يعتمد على العمالة منخفضة التكلفة، بل على المعرفة والتكنولوجيا والأتمتة والذكاء الاصطناعي، حيث تشير الدراسات إلى أن ما بين 40 بالمئة و50 بالمئة من الوظائف الحالية قد تتغير طبيعتها أو تختفي خلال العقدين المقبلين. وهذا يجعل تطوير المواطن وإعادة تأهيله ضرورة استراتيجية، وليس فقط مطلباً اجتماعياً.
ورغم أن النفط قدّم لدول الخليج قفزة تاريخية هائلة، إلا أن طريقة إدارة سوق العمل خلال الستين عاماً الماضية هي التي صنعت الفجوة الحالية بين دخل المواطن وتكلفة المعيشة. اليوم تسعى الدول الخليجية إلى تصحيح المسار من خلال برامج التوطين، ورفع مهارات المواطنين، وتطوير التعليم، وتحفيز القطاع الخاص لزيادة إنتاجيته ورفع مستوى الرواتب، وإعادة هيكلة الاقتصاد ليصبح متوازناً بين المواطن والوافد.
ويبقى السؤال الأهم: هل تستطيع دول الخليج استعادة دور المواطن في قلب سوق العمل كما كان قبل مئة عام، ولكن هذه المرة بمهارات عصرية ورؤية مستقبلية تقود اقتصاد ما بعد النفط، أم أن نموذج العمالة الرخيصة سيظل يفرض منطقه على السوق؟ الإجابة ستحدد شكل الخليج خلال الخمسين سنة القادمة، وقدرته على بناء اقتصاد مستدام يوازن بين رفاه المواطن واحتياجات التنمية.


