: آخر تحديث

​​​​​​​سوريا: وهم "الشرعية" الأميركية وعاصفة التطبيع القادمة

0
0
0

تظهر المؤشرات الميدانية تحولًا نوعيًا وجذريًا في إستراتيجية الانتشار العسكري الأميركي عالميًا، حيث تشير البيانات الحديثة إلى حقيقة قد تغيب عن البعض، وهي إن الثقل العسكري للولايات المتحدة قد انتقل فعليًا من القارة الأوروبية إلى الشرق الأوسط، وهذا التواجد لم يعد مقتصرًا على القواعد التقليدية، بل تحول إلى شبكة عنكبوتية من النفوذ تمتد من قاعدة "العديد" في قطر (التي تعد من الأكبر عالميًا) مرورًا بالبحرين والكويت والإمارات والسعودية والأردن، وصولًا إلى مراكز نفوذ مستحدثة ومكلفة في سوريا ولبنان، حيث يُنفق المليارات على ما يشبه "القلاع الأمنية"، وهذا المشهد يطرح تساؤلات جوهرية حول "العقيدة الأميركية" الثابتة التي يبدو أن الرئيس دونالد ترامب — بالرغم من خطابه الشعبوي المنتقد لأسلافه وللحروب الأبدية — لم يحد عنها، بل ضاعف ميزانياتها، فالثابت الوحيد في هذه المعادلة المتغيرة هو أن "أمن إسرائيل" يشكّل الأولوية القصوى للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين (بريطانيا وألمانيا) بغضّ النظر عن ساكن البيت الأبيض.

في ظل هذه المعطيات العسكرية تواجه الساحة السورية استحقاقات سياسية بالغة التعقيد، فالتعامل مع الإدارة الأميركية التي تنتهج عقلية "رجل الاستثمار والعقارات"، أو ما يعرف "بالمقايضة السياسية"، لا يقوم على المبادئ بقدر ما يقوم على مبدأ "ادفع قبل أن تتحدث". إن الانخراط مع واشنطن في أي مسار سياسي يفرض أثمانًا إستراتيجية فورية، وما تسعى إليه الولايات المتحدة وإسرائيل يتجاوز مجرد الترتيبات الأمنية الحدودية أو وقف إطلاق النار، والهدف الأعمق والدقيق هو مسار يفضي إلى "تطبيع سياسي شامل" وإخضاع كامل كشرط مسبق لأي استثمار اقتصادي أو استقرار سياسي. والمطلوب ليس مجرد جارٍ هادئ، بل جارٍ "مطبع"، وهو ما تريده تل أبيب من دمشق وبيروت وكافة المحيط الإقليمي.

على الصعيد الداخلي نرى توجهات القيادة السورية الحالية كنموذج للأنظمة التي تحاول إعادة إنتاج نفسها عبر بوابة الخارج، وهذه المقاربة تكشف عن فجوة عميقة في مفهوم "المشروعية السياسية". فبدلًا من بناء نظام يستمد قوته من شراكة حقيقية مع المواطنين، يتم التعويل ببراغماتية مفرطة على "الشراكة مع الولايات المتحدة" والدعم الإقليمي لتثبيت أركان الحكم. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة، فبعد خمسين عامًا من دفع فواتير الدم والاستبداد كانت تطلعات الشرائح السورية المختلفة تتجه نحو بناء نظام دستوري تعددي وتنويري، إلا أن ما يلوح في الأفق هو "إعادة هندسة الدولة السلطوية" بأسس جديدة، حيث يتمحور كل شيء حول شخص الحاكم، وتغيب المؤسسات الفاعلة، ويُستبدل الرضا الشعبي بالرضا الدولي.

وبالرغم من أن هذه الإستراتيجية قد تبدو مغرية للحفاظ على السلطة آنياً، إلا أنها لا تخلو من مخاطر وجودية. فبدلًا من بناء نظام يستمد قوته من شراكة حقيقية مع المواطنين، يتم التعويل ببراغماتية مفرطة على "الشراكة مع الولايات المتحدة" والدعم الإقليمي لتثبيت أركان الحكم. كما أن التوجه نحو تسوية سياسية مع إسرائيل أو تقديم تنازلات جوهرية تمس السيادة قد يصطدم بمعارضة شرسة ليس فقط من الخصوم التقليديين، بل من داخل بنية النظام نفسه وقواعده الشعبية التي قد لا تستسيغ فكرة "الانبطاح" للغرب. والانشقاق الداخلي المحتمل في هذه الحالة لن يكون مجرد خلاف سياسي، بل قد يتحول إلى تمرد بنيوي يضرب أساسات النظام الذي يعتمد على ولاءات عقائدية أو قومية تتناقض مع فكرة التطبيع. وهنا تكمن المفارقة المؤلمة، فبعد خمسين عامًا من دفع فواتير الدم والاستبداد كانت تطلعات الشرائح السورية المختلفة تتجه نحو بناء نظام دستوري تعددي وتنويري، إلا أن ما يلوح في الأفق هو "إعادة هندسة الدولة السلطوية" بأسس جديدة، حيث يتمحور كل شيء حول شخص الحاكم، وتغيب المؤسسات الفاعلة، ويُستبدل الرضا الشعبي بالرضا الدولي.

ختامًا، إن فاتورة العلاقة مع واشنطن وتل أبيب قد لا تظهر آثارها الكارثية اليوم، لكنها ستكون باهظة جدًا على المدى البعيد، فالتجارب تؤكد إن تثبيت السلطة عبر الخارج هو رهان خاسر تاريخيًا، ويضع مستقبل سوريا أمام تحديات بنيوية حقيقية قد تجعل من "الاستقرار" الحالي مجرد هدوء مؤقت يسبق عاصفة جديدة. فالمشروعية الحقيقية لا تُمنح في الغرف السوداء في واشنطن، بل تُكتسب من صناديق الاقتراع ورضا الشعوب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.