ليست البلاغةُ إرثًا يُورَّث كما تُورَّثُ العقارات، ولا سلعةً تُسلَّمُ بمحض الادّعاء. إنّها روحُ لغةٍ إذا سكنت قلبَ قائلها أضاءت، وإذا غاب عنها الصدقُ بهتت وإن تزخرفت. من هنا يبدأ مأزقُ الورثة فكيف يرثون لغةً لم يعودوا يسكنون عصورها، ولا يُتقنون شروطَ ولادتها الأولى؟
فقد كان الأسلافُ يتكلّمون لأنّ الكلام ضرورةُ حياة، لا ترفَ عرضٍ. والبلاغة عندهم لم تكن صُنْعةً تُتقن في مختبرات الأسلوب، بل تجربةً تُختبر في ساحات الوجود حربٌ تشحذ العبارة، وسِلمٌ يُلينها، وفقدٌ يكسوها رمادًا، وعشقٌ يفتح فيها نافذةً على المطلق. لذلك جاءت لغتهم ممتلئةً بالمعنى قبل الموسيقى، وبالحقيقة قبل الزينة. وكانت البلاغة، لديهم، موقفًا أخلاقيًا بقدر ما هي جمالٌ لغويّ.
أما الورثة، فقد وجدوا أنفسهم في عالمٍ تغيّرت فيه شروط القول. فلم يعد السؤال ماذا نريد أن نقول؟ بل كيف سنُقال؟ فانتقلت البلاغة من منطق البيان إلى منطق الظهور، ومن حكمةٍ تُقاس بأثرها العميق، إلى صدى يُقاس بمداه السريع. ومن هنا يبدأ الارتباك حين تُستحضر ألفاظُ الأسلاف دون سياقاتها، وتُستعاد صيغُهم دون معاركهم الوجودية، فتخرج العبارة جميلة الشكل، خاوية الروح.
فبلاغةُ الأسلاف كانت ابنةَ الضرورة، ومأزقُ الورثة ابنُ الوفرة. فحين يكون كلُّ شيءٍ متاحًا تفقد الكلمات حدّتها. وحين يغدو القول وفيرًا، يندر المعنى. لذلك نرى اليوم خطابًا يُفرط في الإيحاء ويُقصِّر في المسؤولية، ويُكاثر بالاستعارات ويُقلِّل من الصدق. كأنّ اللغة صارت مسرحًا تُعرض فيه الأقنعة، لا مرآةً يُرى فيها الوجه.
ومع ذلك، فالمسألة ليست خصومةً بين زمنين، ولا ثأرًا لغويًا متخيَّلًا. فالورثة ليسوا مُدانين لأنهم ورثة، بل لأن بعضهم اكتفى بالميراث ولم يُجازف بالابتكار. فالبلاغة لا تعيش على النقل وحده، إنّها تطلب شجاعةَ التجربة. فمن لا يخاطر بحياته، لا يحقّ له أن يخاطر باللغة. ومن لم يذق مرارة السؤال، لن يُحسن صناعة الجواب.
ولقد أفاد الأسلاف من قيودهم فصنعوا اتّساعهم. قيودُ العُرف، وقسوةُ الواقع، وصرامةُ العقل الجمعي، وكلّها كانت تُجبر العبارة على الاقتصاد، فتولد مكثّفة، حادّة، لا زيادة فيها ولا لغو. أمّا الورثة، فأساؤوا أحيانًا استخدام اتّساعهم، فصار النصّ فضفاضًا، يفيض حيث لا ينبغي، ويصمت حيث يُنتظر القول.
وثمّة فرقٌ جوهري بين بلاغةٍ تُنصِت للعالم وبلاغةٍ تُصغي لصداها. فالأولى حوارٌ مع الوجود، والثانية مونولوجُ إعجابٍ بالنفس. والأولى تُصيب لأنها تسأل، والثانية تُخطئ لأنها تجلد. ولهذا كان أبو الطيِّب المتنبي مثلًا كبيرًا لا لأنه فخمُ اللفظ، بل لأنه مُثقَل بالسؤال سؤال المكانة، والخذلان، والكرامة، والمعنى. وكان الجاحظ بليغًا لأنه كان يرى البلاغة عقلًا يمشي، لا زينةً تتدلّى.
ومأزقُ الورثة اليوم يتفاقم حين يُفهم التراث بوصفه نصوصًا محفوظة لا أسئلة مفتوحة. وعندئذٍ يتحوّل الماضي إلى متحف، لا إلى معمل. والبلاغة، حين تُحنّط، تفقد قدرتها على الإضاءة. ولا خلاص من هذا المأزق إلا بإعادة الاعتبار لمفهوم البلاغة بوصفها منظومةَ أخلاقٍ في القول، ومسؤولية، وتواضع أمام الحقيقة. فالكلام الذي لا يُحاسب نفسه، لا يُحاسب العالم.
وليس المطلوب أن نكرّر الأسلاف، ولا أن نتمرّد عليهم لمجرّد التمرّد. فالمطلوب أن نُحسن الإصغاء إلى دروسهم العميقة، وبأن البلاغة تُولد من تماسٍّ صادقٍ مع الحياة، وأن اللغة لا تُنقذها التقنيات وحدها بل الرؤية، وأن الجمال إذا انفصل عن الحقيقة صار ضجيجًا أنيقًا.
ففي زمنٍ تتسارع فيه العبارات، يصبح البطء فضيلةً بلاغية. وبأن نكتب أقلّ لنقول أكثر. وأن ننقّي العبارة من حشو النجومية، لنردّها إلى كرامة المعنى. فهكذا فقط يمكن للورثة أن يبرّوا بإرثهم لا بتقليده، بل بتجاوزه إليه، لا بإعادة إنتاج صوته، بل باستعادة روحه.
فبلاغةُ الأسلاف لم تكن حنينًا إلى الوراء، بل شجاعة في استشراف القادم. ومأزقُ الورثة ليس في ضعف اللغة، بل في الخوف من دفع ثمنها. فحين نجرؤ على هذا الثمن، ستستعيد البلاغة مكانها جسرًا بين الإنسان ومعناه، لا مرآةً لغروره.

