: آخر تحديث
هاشتاك الناس

أستاذ جامعي مهدرج

2
3
3

في جلسة مع أحد الصحفيين سألني: "لماذا تهاجم الطلبة والمناهج وجدران الجامعات المتشققة، وتترك أساتذة آخر زمن يسرحون ويمرحون؟" ابتسمت له كمن اكتشف فجأة أن التعليم في وطننا لم يعد معقلًا للعقل، بل أصبح استعراضًا رتيبًا يتكرر كل عام، يلبس وجوهًا جديدة وأفكارًا متآكلة، وكأننا نعيد تدوير الفشل بنفس الحروف.

في بلد تُرفع فيه لافتات "العلم نور" في حفلات التخرج أكثر مما يُرفع فيه مستوى التعليم، يظهر لنا كائن جديد: الأستاذ الجامعي المهدرج، وهو توصيف ساخر لحالة متفاقمة من التدهور الجامعي الذي فقد خصائصه الأكاديمية وتحول إلى ماكينة طباعة شهادات، ومولد ألقاب، وبائع أحلام مزيفة مغلفة ببعض عروض باوربوينت البالية، وهو لا يفرّق بين اليقظة والغيبوبة.

يحمل شهادة، لكنه لا يملك مشروعًا، يُدرّس المنهج لكنه لا يفهمه، يتحدث عن البحث العلمي وكأنه وصفة سحرية، لكنه لا يميز بين سؤال البحث وعنوان المحاضرة! تراه كثير الحضور في صور حفلات التخرج، لكنك لن تراه في ذاكرة علم.

لنكن منصفين، فـ"الأستاذ الورقي" لم يولد من فراغ، هو ابن شرعي لنظام أكاديمي يرى في الكم تفوقًا على الكيف، وفي الحضور الشكلي دليل التزام، وفي العلاقات وسيلة ترقية. نظام لا يُحاسب، ولا يُتابع، ولا يُقيّم على أساس الجهد بل على أساس "الملف الورقي".

إنه الابن غير الشرعي لمنظومة تُمنح فيها الشهادات كما توزّع المناصب في دولة محاصصة: بالواسطة لا بالاستحقاق، وبالسعر لا بالفكر. إنك في زمن تُباع فيه رسائل الماجستير والدكتوراه بالكيلوغرام، تمامًا كالبصل في الأسواق، ويمكن فيه شراء الدكتوراه كأنك تشتري بدلة جاهزة من السوق تناسب المقاس، لكنها لا تناسب المقام.

لا غرابة أن ترى أستاذًا في الإعلام يكتب "لاكن" بدلًا من "لكن"، ويتحدث بثقة عن أخلاقيات الصحافة وهو لم يكتب خبرًا واحدًا في حياته، ولا يعرف الفرق بين العنوان والمتن! ولا عجب أن يحدّثك أستاذ في اللغة العربية عن بلاغة الجاحظ بنبرة من لا يفرّق بين المجاز والاستعارة، وبين الدرس والتحايل.

ولا غرابة في أن ترى أستاذًا يتباهى بورقة بحثية مسروقة من "مكتب دراسات"، ويقدّمها في مؤتمر علمي، بينما لا يعرف الفرق بين المنهج الكميّ والكمّ الذي سرقه، وكأنه اكتشف علاج السرطان باستخدام حبة البركة!

أما التدريس، فمسرحية أخرى من العبث الأكاديمي: صوت واحد، فكرة واحدة، حصة واحدة مكرورة، وشرائح باوربوينت تعاني من الهزال المفاهيمي. لا تفاعل، لا استبصار، لا أدنى شعور بأن خلف تلك الكاميرا أو الطاولة بشرًا يريد أن يفكر. المهم أن تُسجّل الغيابات، وتُملأ الاستمارات، وتُرفع التقارير البليدة التي تتحدث عن "نجاح الخطة التعليمية"، ثم يذهب ليكتب منشورًا ناريًا على فيسبوك عن أهمية العلم في بناء الأمم!

لا أُغلق الباب تمامًا، فبين هذا الركام ينهض بعض الشباب كجمرٍ تحت الرماد: يرفضون الانصياع لجمود الفكر، ويتساءلون بجرأة. أرواحهم مضطربة، وعقولهم تنبّه للحقيقة بالرغم من الضجيج الذي يحيط بهم. هم النقاط النادرة وسط التشويش، يتهيأون لاكتشاف مسارات جديدة في متاهة التعليم الراكد. لكنهم قلّة نادرة، تتعثر في متاهة الجهل المقنن، وتُقصى تحت ضجيج التفاهة المنهجية، في عصر تُكافأ فيه الطاعة، ويُعاقب فيه التفكير.

في ظل هذا المشهد الكاريكاتوري، يبقى السؤال معلقًا: متى يعود الأستاذ الحقيقي؟

ذلك الذي يحمل اللقب لأنه يستحقه، ويقف أمام طلبته لا ليملي عليهم، بل ليفتح عقولهم، ويزرع فيهم الشغف قبل المعلومة.

تذكّر: إننا في عصر لم يعد الجهل يختبئ وراء الأبواب، بل صار يعتلي المنابر، ويتقدم في المسيرات الاحتفالية، ويحتل عرش الحكمة. صار العقل عبئًا، والسخرية فضيلة.
نحن في عصر الأستاذ المهدرج، وتفاهات الشيباني و"الخرقة الخضراء والبيضاء"، وشفط العلوم والعقول والبطون والفلوس. عصر موت العلم والشهادات المسلوقة، وولادة مشروع تنويري جديد اسمه قلة العلم وقلة الأدب!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.