: آخر تحديث

نظرية دولة بحكومتين ورسم خرائط المنطقة

3
2
3

لم تكن رؤية مشهد سياسي جديد يتمثل بوجود حكومتين أو أكثر وليدة اللحظة، إنما هي نتاج تخطيط استراتيجي إسرائيلي تشترك فيه دوائر عديدة ومؤسسات أبحاث مختلفة، والهدف الجامع بينها هو إعادة رسم خرائط جديدة تتشكل منها منطقتنا العربية وفقًا لنظرية أن تفتيت وتشطير الكيانات السياسية، وإيجاد حكومتين في البلد الواحد، هو أسهل طريقة لإضعاف تلك الدول وتهميشها وإدخالها في أتون صراعات سياسية وإثنية ودينية ومناطق نفوذ لا تنتهي.

قبل أسابيع، صرّح في بيروت المبعوث الأميركي لسوريا ولبنان توم براك، أنه يوجد في عقل إسرائيل فكرة مهيمنة بأن خطوط سايكس بيكو السابقة لم يعد لها معنى في ضوء ما يحصل في المنطقة.

حقيقة أن هذه النظرية لها هدف استراتيجي حيوي يتمثل في إعطاء إسرائيل أرجحية مطلقة في معادلات القوة والنفوذ في العالم العربي.

ففي عام 1982، طرح عوديد ينون، وهو باحث مهم وكبير مستشاري شارون سابقًا، في ورقة عمل منشورة أن استراتيجية إسرائيل لنظام إقليمي جديد لا تستند إلى خرائط سايكس بيكو، إنما ترتكز على إيجاد كيانات طائفية وإثنية منقسمة تحيط بإسرائيل، وخلق حكومات وكانتونات متصارعة بينها، مما يدفع بعضها إلى التفكير بالتحالف مع إسرائيل سعيًا لحمايتها. ومثلاً، دعا ينون في تلك الورقة إلى تفكيك لبنان، وسوريا، والعراق، ومصر، والسودان، وليبيا، وذكر بهذا الصدد مثالًا بالدعوة إلى تفكك لبنان، وهو ما تجسد بوجود حكومة رسمية تمثيلية مع تواجد دويلة حزب الله التي ابتلعت الدولة وهيمنت على القرار الوطني. وركّز ينون على أن تفكيك لبنان سيكون مثالًا يُحتذى به في مناطق أخرى. وقد رأينا بشكل أو بآخر أمثلة عديدة على تضعضع جغرافية العراق وخلق صراع طائفي في هذا البلد يسير نحو مزيد من التشظي والانقسام الإثني والطائفي، مثلما نشاهد ليبيا مثالًا آخر بوجود حكومتين، واحدة في طرابلس وأخرى في بنغازي. واليوم يتجدد طرح تقسيم سوريا وإنشاء إقليم درزي في جنوبها يرتبط بممر حيوي مع إسرائيل، وكيان آخر للعلويين في الساحل.

كما أن دعوات تفكيك الأردن وإثارة النعرات والخلاف بين مكوناته قديمة، والمطالبة باعتباره وطنًا بديلاً يمكن أن تتشكل فيه حكومتان، واحدة للأردنيين وأخرى للفلسطينيين. والسعي الحثيث في ممارسة الضغوط على مصر لتسهيل تهجير سكان غزة إلى سيناء وإنشاء كيان موازٍ على أرض مصر يُعد هدفًا حيويًا للسياسة الصهيونية، لأن إضعاف مصر وتفككها سيكون مدخلًا لتفكك كلٍّ من ليبيا والسودان، وما نراه في الأخيرة شاهد آخر على التشجيع على قيام حكومتين في البلاد.

ولا تغيب عنا صورة اليمن بوجود حكومة شرعية معترف بها دوليًا، وأخرى في صنعاء تُسمى حكومة أمر واقع. وفي هذا الصدد يمكن للمتابع أن يلاحظ ببساطة على الأقل وجود تسع دول عربية دخلت في هذا النفق.

إنَّ هدف إسرائيل واللوبيات الصهيونية الداعمة لها هو استمرار العمل على تنفيذ هذه الاستراتيجية على مراحل، بهدف إحاطة إسرائيل بكيانات وحكومات متصارعة وضعيفة، كي تبقى إسرائيل هي الدولة القوية المهيمنة في الإقليم.

نحن أمام مشهد جيوسياسي معقد وخطير يتطلب مجابهته عبر مراجعة شاملة لكل القرارات والسياسات الخاطئة السابقة التي سادت في نصف القرن الماضي. وليس عيبًا في السياسة المراجعة والتصحيح؛ فقد اعترف الملك المغربي الراحل الحسن الثاني في كتاب "ذاكرة ملك" للكاتب الفرنسي إريك رولو، بأن 60 بالمئة من قراراته كانت خاطئة. وأضيف إلى ذلك بأن مراجعة القرارات الخاطئة هي سمة من سمات فرسان السياسة.

إنَّ الوعي بالمخاطر هو أساس العمل في إيجاد خطط ومشاريع سياسية ذكية تستلهم دروس وعِبر الماضي، وتحكيم العقل والمنطق، والابتعاد عن الشعارات والشعبوية، وأن تتجه بلداننا نحو الواقعية ورسم الخطط الطموحة. وخذ مثلًا على ذلك المنهجية السياسية الناجحة للمملكة العربية السعودية في استقطاب أغلب دول العالم في إقرار حل الدولتين للقضية الفلسطينية، ونتج عنه سلسلة من الاعترافات المهمة بدولة فلسطين، بعكس السياسات السابقة للعرب التي أدت إلى كوارث وتراجع التأثير العربي في السياسة الدولية، مما تسبب في ضياع الحقوق.

إن تعزيز فكرة الدولة الموحدة والجيش الوطني وإنهاء الميليشيات والكيانات التي هي أقل من الدولة، وترسيخ الوحدة الوطنية، وانتهاج سياسات براغماتية تتعاطى مع الواقع بهدف تطويره نحو الأفضل، سوف يعيد لنا دولنا ويقضي على الانقسامات وحكومات الميليشيات، لكي تبقى الدولة كمفهوم هي أرقى صيغ العيش المشترك بين السكان، وتتواصل مع العالم بروح التفاعل الحضاري والمحافظة على هويتنا العربية والإسلامية، والانتقال بنا من الدول الفاشلة إلى نموذج البلدان التنموية الناجحة، مما يحقق أهداف الشعوب العربية في التنمية المستدامة والتطوير والمحافظة على أصالتنا وسط سيل عارم من المتغيرات العاصفة وتداعيات العولمة وثورة التكنولوجيا واستئناف الدور الحضاري للأمة العربية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.