يمثل اعتراف بريطانيا بفلسطين دولة خطوةً ذات أبعاد تاريخية وقانونية وسياسية وإنسانية عميقة. فقد أضفى عليه التصريح المباشر لرئيس الوزراء ديفيد ستارمر أهمية خاصة، إذ أشار إلى أن الأمل في حل الدولتين يتلاشى، لكنه يجب ألا ينطفئ. ومع أن نائب رئيس الوزراء البريطاني أكد أن هذا الاعتراف لا يعني قيام الدولة الفلسطينية على الفور، بل يجب أن يكون جزءًا من عملية سلام، فإن هذه الخطوة تعكس تحولًا كبيرًا في السياسة البريطانية التي اتسمت لعقود طويلة بالصمت والحذر. ويأتي هذا التحول نتيجة لتغيرات في السياسة الأوروبية عمومًا، والفرنسية خصوصًا، التي تبنّت ورأست المؤتمر الدولي لحل الدولتين.
بالرغم من أهمية اعترافات دول أخرى مثل كندا وأستراليا والبرتغال، يظل للاعتراف البريطاني خصوصيته التاريخية والسياسية والقانونية. فهو، وإن كان رمزيًا من الناحية القانونية، يحمل وزنًا سياسيًا كبيرًا، كما أشار باتريك وينتور، محرر الشؤون الدبلوماسية في صحيفة الغارديان. وهدف هذا الاعتراف هو تعزيز السلام الشامل في المنطقة، دون مراجعة العلاقات مع إسرائيل أو تقويض خيار التفاوض. إلا أن أهميته تكمن في كونه رسالة واضحة بأن من حق الشعب الفلسطيني ممارسة حقه في تقرير مصيره، ورفض استمرار الاحتلال. وأشار الكاتب، وهو الأهم، إلى أن هذا الاعتراف لا يغير من الوضع القانوني، ولا يعني اتخاذ خطوات تنفيذية ضد إسرائيل، لكنه يبقى قرارًا مهمًا يمكن البناء عليه، ويعتبر تصحيحًا لموقف تاريخي تتحمل فيه بريطانيا المسؤولية عن عدم قيام الدولة الفلسطينية.
تاريخيًا، تُعتبر بريطانيا المسؤولة عن القضية الفلسطينية، وعن عدم قيام دولة فلسطينية واحدة لجميع أبنائها. ففي عام 1917، أصدرت وعد بلفور الذي وعد بوطن قومي لليهود في فلسطين دون ذكر للدولة الفلسطينية. وبعد ذلك، ووفقًا لاتفاقيات سايكس بيكو، وُضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني بهدف تنفيذ وعد بلفور، من خلال تسهيل الهجرة اليهودية، وتسهيل بيع ونقل الأراضي، وتشجيع قيام المؤسسات اليهودية، وغض الطرف عن أنشطة الميليشيات الصهيونية العسكرية. واستمر هذا الدعم حتى عرض القضية على الأمم المتحدة، وصدور القرار رقم 181 بتقسيم فلسطين إلى دولة يهودية (نحو 55 بالمئة من الأراضي) ودولة عربية (نحو 44 بالمئة)، ثم العمل على قبول إسرائيل عضوًا في الأمم المتحدة.
لقد تجاوزت إسرائيل ما نص عليه القرار، ففي حرب 1948، احتلت أراضي إضافية مخصصة للدولة العربية (بما يقارب 25 بالمئة)، وهو ما أدى إلى النكبة الأولى وهجرة أكثر من 750 ألف فلسطيني يعيشون في المخيمات حتى اليوم. وبالرغم من هذه المسؤولية التاريخية، بقيت بريطانيا بعيدة عن الاعتراف بفلسطين دولة، ولعل أحد الأسباب الرئيسة هو الدعم المطلق لحزب المحافظين لإسرائيل، وضعف وتردد حزب العمل. وكما أشار المؤرخ البريطاني آفي شليم، أستاذ العلاقات الدولية: "إسرائيل لن تجنح أبدًا للسلام، وحان الوقت لكي تعترف بريطانيا بفلسطين الدولة." وأضاف، وهو الأهم، أن رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أقر بأن وعد بلفور وحده هو المسؤول عن القضية.
لاعتراف بريطانيا دلالات سياسية مهمة في أكثر من اتجاه؛ فهو يمثل أول تصحيح للظلم الواقع على الشعب الفلسطيني على مدار عقود طويلة من الحكم البريطاني والانتداب على فلسطين. وبصفة بريطانيا أحد القوى الرئيسة أوروبيًا وعالميًا، فإن هذا الاعتراف سيشجع دولًا أخرى على اتخاذ خطوة مماثلة. كما أن كون بريطانيا عضوًا دائمًا في مجلس الأمن يقوي ويدعم تفعيل مكانة فلسطين من دولة مراقب إلى دولة كاملة العضوية بإنهاء الاحتلال. كذلك، يزيد هذا الاعتراف من عزلة الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما يفسر الغضب والانتقاد الإسرائيلي الذي يصفه بأنه "مكافأة لإرهاب حماس". ولا شك أنه سيمثل كابحًا لسلوك إسرائيل وأي قرار تتخذه بالنسبة إلى مستقبل الأراضي الفلسطينية وضم الضفة الغربية.
يبقى هذا الاعتراف، وغيره من اعترافات الدول الأخرى، رمزيًا ما لم يتم تفعيل الموقف الفلسطيني بإنهاء الانقسام، وتبني مقاربة الدولة المدنية منزوعة السلاح، ووقف جميع أشكال التسلح في غزة، وموافقة حماس على ترك الحكم، وقيام إدارة مدنية ضمن سلطة وطنية فلسطينية توافقية، بالإضافة إلى إصلاح السلطة الفلسطينية بإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية.
في قراءة لاعتراف بريطانيا وغيرها من الدول، يتضح أنه اعتراف لا يتجاهل الحقائق على الأرض، وأن أولوياته وشروطه تتمثل في ضمان أمن إسرائيل وبقائها ضمن إطار بناء سلام شامل يعم المنطقة بأسرها. إنه اعتراف بالخطوة الأولى التي تحتاج إلى جهد إقليمي ودولي لإنهاء الاحتلال وإقامة الدولة الفلسطينية الكاملة العضوية ذات السيادة على أرضها. هو اعتراف بأولويات إسرائيلية أولًا.