: آخر تحديث

لا حصانة لأعداء إسرائيل

3
3
2

من يراقب المشهد الشرق أوسطي يدرك أن سياسة الاغتيالات الإسرائيلية لم تكن يومًا طارئة أو استثناءً عابرًا، بل نهجًا راسخًا في عقل المؤسسة الأمنية، وأحد أعمدة استراتيجيتها في مواجهة التنظيمات الارهابية. فإسرائيل، التي بنت عقيدتها على مبدأ الضربة الاستباقية، ترى أن تصفية القادة الإرهابيين ليست خيارًا ظرفيًا، بل ضرورة متكررة لتقليم أظافر خصومها ومنعهم من تحويل الدم والفوضى إلى أوراق ضغط متجددة.

وفي ضوء هذا النهج الراسخ، يمكن فهم عملية اغتيال إسماعيل هنية في 31 يوليو 2024 بطهران، التي وُصفت بأنها أعقد وأكبر عملية أربكت العالم الاستخباراتي والأمني، والتي لم تكن حادثًا أمنيًا عابرًا، بل تجسيدًا لمسار استراتيجي طويل. فالاغتيال حمل رسالة واضحة بأن يد إسرائيل لا تعترف بحدود جغرافية حين يتعلق الأمر بأمنها. فمنذ السبعينات وهي تبعث بإشارات متكررة: "الحساب قد يتأخر لكنه لا يسقط". من معظم العواصم التي احتوت الارهابيين، أثبتت دولة إسرائيل أن ذراعها الأمنية قادرة على الوصول حيثما وُجد خصومها، وأن الزمن لا يمنح الحصانة. بل إن العملية المعقدة لاغتيال هنية لم تكن سوى مثال على ما يمكن أن يفعله جهاز الموساد الإسرائيلي حين يقرر الضرب، إذ تميزت بالاختراق الكامل لأجهزة مخابرات دولة بحجم إيران، وبقتل عميلها وضيفها في غرفته وتحت حمايتها. إنها رسالة مزدوجة، قدرة إسرائيل على اختراق أكثر البيئات أمنًا، وإذلال من يجرؤ على استضافة أعدائها. إنها عملية لا يمكن تصورها إلا باعتبارها تتويجًا لنهج أمني يضع الردع في مرتبة أعلى من أي اعتبارات سياسية أو دبلوماسية.

وربما يتساءل البعض، هل كل قيادي إرهابي من أعداء اسرائيل اليوم محكوم عليه بالموت؟ في الحقيقة، القائمة مفتوحة، والأسماء محفوظة في الأدراج تنتظر اللحظة المناسبة. إسرائيل لا تستعجل، لكنها لا تنسى. وقد تُبقي على بعض القيادات أحياء، لا بدافع الرأفة، بل لاستخدامهم كورقة مساومة في لحظة سياسية، أو كورقة مساومة في صفقات إقليمية. لكن يبقى المصير مرهونًا بتصرفاتهم؛ أحياء لكن أموات مؤجلون، رهن لحظة اختراق أو خيانة أو تهديد مباشر لأمن الدولة العبرية.

وإذا أردنا دليلاً على خطورة التهاون مع هذه القيادات الارهابية، فلن نجد أوضح من أحداث 7 أكتوبر، ذلك اليوم الذي جسّد أبشع صورة للإرهاب المنظم حين انقضّت حماس على المدنيين العُزّل بوحشية دمّرت كل أوهام التعاطف معها. لقد كان ذلك العمل الإرهابي شاهدًا دامغًا على أن التهاون مع الشر لا يولّد إلا شرًا أعظم، وأن غض الطرف عن قيادات الموت يعني إعطاءهم فرصة لتكرار المذبحة مرة بعد أخرى. فالدم الذي سُفك في تلك الساعات لم يقتصر على الإسرائيليين وحدهم، بل امتد أثره إلى إشعال المنطقة كلها في دوامة من الفوضى وعدم الاستقرار. ومن هنا يتضح أن منطق إسرائيل في ملاحقة قادة الارهاب ليس مجرد رد فعل عاطفي، بل قناعة راسخة بأن ترك رأس الأفعى حيًّا كفيل بإعادة إنتاج السموم، وأن الردع الحقيقي لا يتحقق إلا عبر سياسة صارمة تُشعر كل قائد إرهابي أنه محكوم بالموت المؤجل، مهما طال الزمن أو بعدت المسافة.

وهذا يقودنا إلى البعد الأعمق فإسرائيل لا ترى في هذه العمليات مجرد ردود فعل على هجمات أو أحداث طارئة، بل جزءًا من عقيدتها الأمنية الطويلة الأمد. إن هذه السياسة، على قسوتها، تعكس رؤية إسرائيل لذاتها كدولة محاطة بالمخاطر، تعيش وسط بحر من التهديدات الأمنية والعسكرية والإيديولوجية. ولذلك فإن استمرارها في نهج التصفيات ليس خيارًا ترفيهيًا، بل جزء من صيانة أمنها القومي. بلغة أوضح، ما دام الإرهاب يرفع رأسه، ستبقى المقصلة الإسرائيلية مرفوعة. فالميدان، كما قال أسامة حمدان أحد قادة حماس، هو الحكم، والميدان حتى الآن حسم لصالح اليد الطويلة التي لا تتردد في الضرب متى رأت الخطر يقترب.

ورغم وضوح هذا النهج، لا يزال هناك من يشكك في جدواه، لكن التاريخ يبرهن العكس. فكل قائد يُزال من المشهد يُحدث فراغًا، ويُربك الصفوف، ويزرع الرعب في قلوب من تبقى. الرسالة ليست في عدد الجثث بقدر ما هي في كسر الإحساس بالأمان، حتى لمن يختبئون خلف قصور أو الشقق الفارهة في العواصم الاقليمية. فالسيف مرفوع، والزمن قد يطول، لكن النتيجة واحدة لا حصانة لأعداء إسرائيل، أينما وجدوا.

وعلى الرغم من التعقيدات الدبلوماسية التي قد ترافق أي عملية خارجية، فإن البراغماتية الإسرائيلية لم تعرف التردد حين يُقاس الأمر بميزان الأمن القومي. لقد أثبتت تل أبيب أنها مستعدة لتحمل كلفة سياسية آنية، إذا كان المقابل هو رفع تهديد استراتيجي دائم. وهذا ما يجعل من سياسة التصفيات، في المحصلة، دعامة قائمة لا يمكن التخلي عنها. وإنني أعتقد أن إسرائيل، في ضوء ما يحيط بمواطنيها من مخاطر مستمرة، ستظل مضطرة إلى إبقاء هذا النهج حاضرًا، وربما أكثر حدة كلما ارتفع منسوب التهديد. فالأمن في هذه المنطقة ليس معادلة ثابتة، بل صراع يومي مع عدو يتلون ويتكيف ويبحث عن ثغرات جديدة.

الرسالة التي تبعثها تل أبيب اليوم، عبر استمرار اغتيال القيادات الإرهابية ومن يمولهم ويدعمهم، هي أن الردع لا يتحقق بالتصريحات ولا بالمناورات، بل بالفعل الدموي الصارم الذي يذكّر الجميع أن اليد الإسرائيلية، مهما طال الزمن، لا تُشلّ ولا تُقيّد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.