: آخر تحديث

المدن الطافية والقبائل الرقمية

6
6
4

في ذلك المستقبل الذي لم يعد بعيداً كما نظن، لن يُطلب منك جواز سفر ولا يُهم أين وُلدت أو أين تقيم!

السؤال الوحيد الذي سيتكرر بصوت آلي عند كل معبر، عند كل اتصال، عند كل دخول إلى منصة عيش جديدة هو: ما هو انتماؤك الفكري؟ انتهت صلاحية الدولة القومية كما عرفناها، ومعها فكرة الحدود، والخرائط، والأرض. لم تعد الأرض مسكناً، بل مجرد ذكرى، البشر صعدوا، ارتفعوا فوق اليابسة، حرفياً ومجازياً، يعيشون في مدن طافية، منصات جوية، هياكل سابحة، ومستعمرات هوائية تتحرك فوق الكوكب ككائنات واعية لا تقرّ في مكان.

تلك المدن ليست نتاج خيال علمي، بل ثمرة خوف بشري من التغيّر المناخي، الطغيان السياسي، التفكك الاجتماعي، والاختناق الجغرافي. لم تعد الأرض تتسع لأوهام الانتماء القسري. لا أحد يريد أن يُحكم لأنه وُلد داخل خط على الخريطة. فقرر العقل البشري، الذي تعب من الحروب والنزاعات، أن ينسحب من الأرض، ويبني فوقها. أن يعيش حيث لا توجد سيادة إلا للفكرة، ولا جنسية إلا للقناعة، ولا قانون إلا الشيفرة.

تبدأ الفكرة بالبساطة المعتادة: مدينة عائمة في البحر، مُدارة ذاتياً، بلا ضرائب، بلا جيش، بلا علم. لكن سرعان ما تتكاثر النماذج. مدن في السماء معلّقة بالمنطاد، منصات مدارية قريبة من الغلاف الجوي، أقمار صناعية حيوية تُؤوي آلاف البشر، وحتى مستعمرات عائمة تشبه الحيتان الإلكترونية، تتحرك حول الكوكب حسب المناخ أو الاقتصاد أو المزاج الجمعي.

الناس لا يعيشون فيها بوصفهم (مواطنين) بل (مشتركين)، وكل مدينة طافية تنتمي إلى قبيلة رقمية، قبيلة لا تجمعها لغة أو دم، بل فكرة: قبائل الفن، قبائل اللاعنف، قبائل البيانات المفتوحة، قبائل الذكاء الصناعي، قبائل الطبيعة، قبائل الذاكرة… كل قبيلة تُبرمج قوانينها في عقد ذكي، يوقعه الداخل طوعاً ويُخضعه للمحاسبة الرقمية. لا انتخابات، لا برلمان، بل إجماع توافقي محكوم بخوارزمية أخلاقية يتفق عليها أعضاء القبيلة.

الدولة القومية، بمفهومها المركزي، تنهار في صمت. لم يعد أحد يرغب في العودة إلى نموذج جغرافي يفرض هويته بالإكراه. صار الانتماء اختيارياً، مؤقتاً، رقمياً، وقابلاً للنسخ أو النقل، يمكن للمرء أن ينتمي إلى ثلاث قبائل في وقت واحد، ويعيش في منصتين مختلفتين خلال أسبوع. الهوية أصبحت مرنة، والسيادة أصبحت نسبية، والولاء تحوّل إلى اشتراك شهري.

في هذا السياق، لم تعد الجغرافيا مصدر الصراع، بل البرمجة. الحرب لا تُخاض على الحدود، بل على الخوادم، على الرموز، على امتياز الوصول إلى طبقة الأوامر. والتحالفات لم تعد عسكرية، بل شبكية. قبيلتان رقميتان تتفقان على مزج قوانينيهما، فتتوحّدان مؤقتًا في (مدينة مشتركة) تُدار بالكامل عن بعد، وإذا ما نشأ خلاف، تُفعّل خوارزميات الفَصل، وينقسم السكان بضغطة واحدة، وتنفصل المدينة إلى نصفين، كل نصف يحمل رموزه وشفرته وقيمه.

أما من يقود؟ فذلك ليس حاكماً بشرياً بل (كائن إدارة ذكي)، خوارزمية تتعلم من أخطاء التاريخ، ومن رغبات سكانها، وتُعيد بناء السلطة لحظة بلحظة، دون فساد، دون أهواء، دون مركزية. وهنا تظهر المفارقة: في ظل غياب الإنسان عن سدة الحكم، يعود الإنسان ليشعر بأنه حرّ.

لكن هذا النظام لا يخلو من خطورة. القبائل الرقمية، بالرغم من طابعها الفكري، قد تتحول إلى فقاعة عزلة، إلى جماعات متطرفة تعيش داخل فكرها ولا ترى سواه. التطرف لا يحتاج سلاحاً حين يُبرمج كسلوك جماعي. وماذا لو اختارت قبيلة ما أن تتبنى قيماً فوضوية أو نازية رقمية؟ من يوقفها؟ ومن يُعيد بناء النظام في فضاء لا مركز له؟

السؤال الأصعب: ما مصير من لا يريد الانتماء؟ الذين يُعرفون اليوم بـ (المنعزلين) قد يصبحون غداً (المنفيين العاطفيين) غير قادرين على العيش في أرضهم لأنهم لا يحملون توقيعاً رقمياً لقبيلة. ستُصبح الوحدة خطراً وجودياً، لا شعوراً إنسانياً عابراً، وسيظهر شكل جديد من الفقر: الفقر إلى الانتماء.

بالرغم من كل هذا، يبقى النظام جذاباً. المدن الطافية تمنحك فرصة العيش في بيئة تُشبهك، في قوانين تؤمن بها، وفي مجتمع لا يفرض عليك هويته بل يتبناها منك. ولأول مرة منذ آلاف السنين، لن يُقتل إنسان لأنه مختلف، بل يُمنح خيار المغادرة إلى قبيلة أخرى. الحرية، كما يبدو، وجدت أخيراً وعاءً يليق بها… ولو كان معلقاً في الهواء.

وفي لحظةٍ ما، عندما ننظر إلى الأرض من النوافذ الزجاجية لمدننا الطافية، سنتذكّر بحنين زمن الخرائط، زمن الأعلام، زمن الجنسيات. لكننا سنبتسم بمرارة: لقد كانت تلك مجرّد صيغ قديمة للانتماء… أما الآن، فالانتماء لا يُمنح، بل يُبرمج.

وهكذا… تبدأ النهاية الحقيقية للدولة القومية، لا بانقلاب عسكري، ولا بثورة دموية، بل بقرار بسيط: أن تعيش فوق الأرض… لا فيها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.