ليس بخاف على أحد أن تاريخ سوريا الحديث، ولا سيما منذ انقلاب البعث 1963 وحتى هذه اللحظة، من مرحلة ما بعد سقوط الأسد، هو في جوهره سردية مركزية مفرطة، متخمة بالقمع، والتهميش، والإقصاء الممنهج لمكونات البلاد المختلفة. وبدلاً من أن تضمن هذه المركزية وحدة الدولة، كما يُدعى، فقد كانت سببًا مباشرًا في تمزيق نسيجها الوطني، تدريجيًا، وتحويلها إلى ما يشبه "الفيدراليات العفوية"، قبل أن تتحول في مرحلة ما بعد الثورة 2011 حيث باتت مناطق كاملة تُدار خارج سلطة دمشق، لكن دون أن تمتلك الحق الدستوري في إدارة ذاتها. إذ إن المفارقة تكمن في أن ما يُرفض اليوم تحت عنوان "رفض التقسيم" قد تحقق واقعيًا، أو ميدانيًا، لا نتيجة للفيدرالية، بل لغيابها، بعد أن كانت ترسم نتيجة استبداد الأنظمة، على نحو معنوي، من خلال تعزيز- التكوينات- بعيدًا عن أية وحدة وطنية منادى بها، مزعومة!
المركزية في شكلها السوري المستمر ورم لا وحدة...!
على مدى بضعة عقود، وأكاد أقول: منذ تأسيس ما سميت بـ"الجمهورية العربية السورية" بدلاً من "الجمهورية السورية"، أُديرت سوريا بعقلية أمنية ترفض التنوع، وتختزل الدولة في العاصمة، والسلطة في الحزب، والشعب في الأكثرية المصطنعة. إذ لم تكن السلطة ترى في الكرد أو السريان أو التركمان أو الدروز أو العلويين سوى مكونات وظيفية، تُستخدم لتزيين الخطاب الوحدوي عند الضرورة، إلى أن وصلت إلى مرحلة التخمة الدعائية، فصار ذكر أحدها، أي: الكرد بشكل خاص، من قبيل الممنوعات، من دون أن تنال أية قومية أو إثنية أية حقوق فعلية، ثقافية كانت أم سياسية. وما إن اندلعت شرارة الثورة في 2011، حتى تكشف حجم هشاشة الوحدة الشكلية، إذ تهاوت مناطق بأكملها خارج السيطرة، وشكّل السكان المحليون إدارات ذاتية، بعفوية سياسية أو عسكرية، عجز المركز عن تفكيكها.
الفيدرالية لا تعني التقسيم
ينبغي أن يُفهم أن الفيدرالية ليست نقيض الوحدة، بل أحد أبرز أشكالها نضجًا. ففي دول مثل الهند والولايات المتحدة وكندا وسويسرا وبلجيكا، لم تمنع الفيدرالية من تكريس الانتماء الوطني، بل ساهمت في تدعيمه، عبر احترام خصوصيات الأقاليم، وضمان المشاركة المتوازنة في اتخاذ القرار. ففي الهند مثلًا، تعيش مكونات دينية وإثنية ولغوية هائلة التنوع في أقاليم مستقلة إداريًا، دون أن يطعن ذلك في وحدة البلاد. وفي المقابل، كانت الدول التي تمسكت بالمركزية المتعفنة، كالعراق السابق، وليبيا القذافي، وسوريا ما سميا بالأسدين، أكثر عرضة للتفكك الفعلي والانهيار الأمني والسياسي.
فيدراليات متباعدة الأقاليم
أو التجربة العالمية الممتدة
من المهم التذكير بأنَّ الفيدرالية لا تقتصر على الدول ذات الامتداد الجغرافي الكبير فحسب، بل تشمل أيضًا دولًا ذات أقاليم متباعدة جغرافيًا أو ثقافيًا، ومع ذلك حافظت على وحدات متماسكة. ففرنسا، على سبيل المثال، بالرغم من طابعها المركزي تقليديًا، تتبنى نظاماً لا مركزياً يمنح صلاحيات إدارية واسعة للمناطق، كما تدير أقاليم ما وراء البحار بقوانين تنظيمية خاصة تمنحها استقلالية واسعة في بعض الشؤون، دون أن يفصلها ذلك عن الدولة الأم. أما المملكة المتحدة، فتمثل نموذجًا مركبًا من اللامركزية السياسية، حيث تتمتع أسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية ببرلماناتها وسلطاتها التنفيذية الخاصة، مع بقائها ضمن السيادة البريطانية.
كما أن روسيا الاتحادية تتوزع على عشرات الكيانات المتنوعة ثقافيًا وعرقيًا، من جمهوريات ذات طابع قومي، إلى أقاليم فيدرالية بعيدة عن المركز جغرافيًا، لكنها ضمن عقد قانوني موحد. هذه التجارب تُظهر أن الفيدرالية ليست انقسامًا، بل عقد تعايش وتنظيم، وهي حل تاريخي لضمان توازن الهوية الوطنية مع الحقوق المحلية.
فيدرالية كردستان سوريا
حق لا مِنّة
حين يُثار الحديث عن الفيدرالية في سوريا، غالبًا ما تتحول الأنظار إلى الكرد، بوصفهم الجهة الأبرز تنظيمًا وإدارة. لكن من المعيب أن يُطرح النقاش على قاعدة "عدد الكرد في كل منطقة"، أو: لننتظر صناديق الاقتراع، وكأن الحقوق تُمنح ب"حسبة الرؤوس"! إن إغراق أي منطقة بأعداد وافدة ومصطنعة من غير سكانها الأصليين، كما حدث في بعض مدن وبلدات الجزيرة وعفرين، وعبر مراحل، يجب ألا يُستخدم كذريعة لإسقاط حق السكان الأصليين في الإدارة الذاتية. فلو كانت الأرقام الملوّثة بالتهجير والتعريب والتمييز أساسًا للحقوق، لكانت كل مشاريع الاحتلال مسوغة.
ولعل أبرز ما يُطرح ضد الفيدرالية، وخصوصًا في مناطق الكرد، هو ذريعة التداخل السكاني، والتشابك الديموغرافي. لكن هذا الطرح في جوهره قوموي عنصري يخشى من اعتراف الدولة بوجود شراكة حقيقية مع الكرد. والرد على هؤلاء واضح: إن كانت المدن السورية مختلطة، فإن إدارة المكونات لا تعني الطرد ولا العزل، بل منح السلطات الفعلية للمجتمعات التي تشكل أغلبية متجذرة في مناطقها، مع احترام الحقوق الفردية والجماعية لجميعهم. فالكردي في الشيخ مقصود ليس غريبًا، كما أن العلوي في جرمانا ليس دخيلًا، وهكذا بالنسبة إلى كرد: دمشق- حماة- إدلب- الساحل، ممن كانوا يكادون يشكلون أكثرية في يوم ما هناك، خارج خريطة كردستان المجزأة، ولا أحد يجب أن يُطالَب بالرحيل. الفيدرالية لا تفصل بين الناس، بل تفصل بين السلطة القاهرة وحقوق الناس.
سوريا ليست كيانًا قابلًا للحكم المركزي بعد الآن
لقد فككت الحرب، كما فعل القمع من قبل، البنية الإدارية السورية إلى كيانات أمر واقع، يدير كل منها شؤونه بوسائل مختلفة. إذ إن المناطق ذات الغالبية الكردية كانت ولاتزال تدار عبر "الإدارة الذاتية". كما وسيطرت في إدلب، تسيطر فصائل إسلامية على الأرض. إلى جانب تشكل لجان محلية في الجنوب، خلال بضعة عشر سنة من الحرب أو الثورة، قبل وصول هيئة تحرير الشام وبعض الفصائل إلى دمشق وفق ترتيب دولي، عموده الفقري روسيا ودول أخرى. هذه ليست نتاج مشاريع تقسيم، بل هي نتائج حتمية لمركزية لم تترك خيارًا. إن غياب عقد وطني جديد، يقرّ بالتنوع ويُنظّمه دستوريًا عبر الفيدرالية، هو ما يُبقي هذا الانقسام مرشحًا للانفجار، لا العكس.
ومن هنا، فإنه لن يكون هناك استقرار في سوريا المستقبل، ما لم يُعترف لكل مكون بحقه في إدارة شؤونه. ولا يجب أن تُختزل هذه الحقوق ببعض الرموز الثقافية أو المهرجانات الفولكلورية. الفيدرالية لا تعني دولة داخل الدولة، بل مشاركة حقيقية داخل الدولة، تحت مظلة واحدة، وسقف دستوري واحد. إن رفض الفيدرالية بحجة وحدة سوريا، هو كمن يرفض علاج السرطان خوفًا من تغيّر شكل الجسد.
أجل. لن تعود سوريا واحدة كما كانت إلا إذا باتت دولة لجميع السوريين، بلا استثناء. وفيدرالية عادلة، متكافئة، شفافة، ليست تهديدًا لهذه الوحدة، بل هي في جوهرها ضمان لها. أما الاستمرار في المكابرة، والخوف من الاعتراف بالآخر، فلن يؤدي إلا إلى المزيد من التشظي والانفجار. كل هذا يؤكد، وعلى ضوء الواقع أن الفيدرالية ليست مؤامرة، بل مناعة، تحمي سوريا من التفسخ تحت قناع المركزية الواهية.