: آخر تحديث

إيران بين خلط الأوراق وهشاشة النفوذ

3
3
3

تشهد منطقة الشرق الأوسط منذ عقود لعبة شطرنج سياسية معقدة، تتبدل فيها التحالفات وتُخلط فيها الأوراق مع كل أزمة أو متغير جديد. في قلب هذه الرقعة، تقف إيران، الدولة التي أتقنت فن خلط الأوراق، وتحويل التناقضات الإقليمية إلى فرص لتعظيم نفوذها. اليوم، ومع اشتداد الضغوط الداخلية والخارجية وتراجع فعالية أدواتها التقليدية، نجد طهران مضطرة للنزول عن الشجرة، والعودة إلى لغة الدبلوماسية بعد سنوات من الاعتماد على القوة الناعمة والصلبة خارج الأطر التقليدية.

منذ انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، تبنت إيران سياسة توسعية تقوم على تصدير الثورة ودعم الجماعات المسلحة في المنطقة، مستفيدة من هشاشة بعض الأنظمة العربية وتعدد الأزمات. ومع مرور الزمن، أصبحت أدواتها تتراوح بين القوة الصلبة، مثل المليشيات والتدخلات العسكرية، والقوة الناعمة كالإعلام والعلاقات الثقافية والاقتصاد. غير أن السنوات الأخيرة كشفت محدودية هذه الأدوات، خاصة مع تصاعد الضغوط الدولية وتراجع شعبية وكلائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.

في تغريدة نشرها وزير الخارجية الإيراني سيد عباس عراقجي حول لقاءاته في القاهرة بتاريخ الثالث من يوليو 2025، بينت انها ليست مجرد رسالة دبلوماسية عابرة، بل تعكس اضطرار إيران للنزول عن الشجرة، والبحث عن مخارج جديدة تحفظ لها مكانتها في معادلة إقليمية تتغير بسرعة. الحديث عن "مرحلة جديدة" مع مصر، القوة العربية الأكبر، هو اعتراف ضمني بأن سياسة المواجهة المباشرة لم تعد تجدي نفعاً، وأن لغة المصالح باتت هي العملة الأكثر رواجاً في سوق السياسة الإقليمية.

تبدو إيران اليوم وكأنها تلعب على رقعة شطرنج إقليمية، تحرك قطعها بحذر وتعيد ترتيب تحالفاتها مع كل متغير جديد. لكنها في الوقت ذاته، نسجت حول نفسها بيت عنكبوت من التحالفات الهشة والوكلاء، سرعان ما يتداعى أمام رياح التغيير أو الضغوط الدولية. بين براعة التخطيط ومخاطر الهشاشة، تتحرك إيران في مساحة رمادية، حيث لا شيء ثابت سوى المصالح، ولا شيء مضمون سوى أن الثمن باهظ لمن يخطئ التقدير.

في لعبة خلط الأوراق الإقليمية، تدرك إيران أن بقاءها لاعباً محورياً يتطلب إعادة ترتيب أولوياتها وتحالفاتها، المصالح، لا الأيديولوجيا، هي الورقة الرابحة اليوم. وفي عالم تتبدل فيه التحالفات بوتيرة متسارعة، تجد طهران نفسها مضطرة لإعادة حساباتها، والموازنة بين الحفاظ على نفوذها التقليدي عبر المليشيات، والانفتاح على الحكومات العربية الكبرى التي كانت بالأمس القريب في خانة الخصوم.

هذا التناقض ليس مجرد مناورة تكتيكية، بل هو انعكاس لأزمة عميقة في الاستراتيجية الإيرانية التي لم تعد قادرة على الاستمرار في سياسة حافة الهاوية دون دفع ثمن باهظ.

لا يمكن فهم التحرك الدبلوماسي الإيراني دون الإشارة إلى التراجع الملحوظ في نفوذ المليشيات الموالية لطهران. من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن، تواجه هذه الجماعات تحديات عسكرية وسياسية وشعبية غير مسبوقة. أرقام صادمة تشير إلى تراجع التأييد الشعبي لها في العراق بنسبة تزيد عن 30% خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بحسب استطلاعات محلية. هذا التراجع دفع إيران للبحث عن بدائل استراتيجية، أهمها الانفتاح على مصر، في محاولة لإعادة التموضع وكسب شرعية جديدة في العالم العربي.

منذ سنوات، تحاول إيران إبقاء دولة إسرائيل في خانة العدو الإقليمي المشترك، مستثمرة القضية الفلسطينية كورقة ضغط في وجه أي ترتيبات إقليمية قد تهمش دورها. غير أن رياح التطبيع التي هبت مع اتفاقيات أبراهام غيّرت قواعد اللعبة، إذ باتت بعض الدول العربية ترى في إيران تهديداً أكبر من دولة إسرائيل، وهنا، تجد طهران نفسها مطالبة بمزيد من خلط الأوراق، لمنع تشكل محور عربي-إسرائيلي يستثنيها من معادلات الأمن الإقليمي.

التحولات الإيرانية تضع الأمن الإقليمي على المحك، خاصة في الخليج العربي والبحر الأحمر. أي انفتاح دبلوماسي مع طهران قد يساهم في تهدئة التوترات، لكنه يحمل في طياته مخاطر استغلال إيران لهذا الانفتاح لتعزيز نفوذها أو شرعنة أنشطتها غير المشروعة. التجربة التاريخية تؤكد أن طهران كثيراً ما استخدمت الدبلوماسية كغطاء لأنشطة أخرى، وأن النزول عن الشجرة غالباً ما يكون مؤقتاً في انتظار فرصة جديدة للعودة إلى التصعيد. فالتعامل مع إيران يتطلب حذراً شديداً وضمانات واضحة، لا سيما في ظل تجارب سابقة أثبتت أن سوء التقدير في قراءة النوايا الإيرانية قد يكلف المنطقة ثمناً باهظاً من الاستقرار والسيادة.

في لعبة السياسة الإقليمية، تبقى إيران بارعة في خلط الأوراق وتوزيعها بما يخدم مصالحها. غير أن نجاح هذه الاستراتيجية مرهون بقدرتها على الموازنة بين مصالحها المتناقضة والتزاماتها المتضاربة. الفشل في هذه الموازنة قد يؤدي إلى عزلة أكبر وخسارة النفوذ المتبقي، في حين أن النجاح قد يفتح أمامها أبواباً جديدة للاندماج في المنظومة الإقليمية والدولية.

في نهاية المطاف، مهما تغيرت الأدوات أو تبدلت التحالفات، تبقى إيران دولة مشروع، تتقن فن خلط الأوراق، ولا تتردد في النزول عن الشجرة إذا اقتضت المصالح ذلك. على صناع القرار العرب أن يدركوا أن التهدئة ليست بالضرورة تحولاً جوهرياً، وأن المصالح هي ورقة اللعب الحقيقية في هذه المرحلة. من لا يجيد قراءة المشهد وإعادة توزيع الأوراق بحكمة، سيدفع الثمن الباهظ في لعبة لا ترحم من يخطئ التقدير.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.