: آخر تحديث
الأهداف والجذور والتداعيات المحتملة على وحدة سوريا:

مشروع ممر داود الإسرائيلي

3
3
3

في قلب منطقة الشرق الأوسط المضطربة، ومع تسارع وتيرة التحولات الإقليمية، يبرز مجددًا مشروع طموح، وإن كان يثير الكثير من الجدل والتساؤلات، ألا وهو "ممر داود الإسرائيلي". هذا المفهوم، الذي يتردد صداه في أوساط التحليل السياسي والإستراتيجي، يمثل رؤية إسرائيلية إستراتيجية بعيدة المدى، تسعى إلى تحقيق ربط جغرافي بالغ الأهمية. يهدف هذا المشروع في جوهره إلى إنشاء تواصل إقليمي يمتد من مرتفعات الجولان السورية المحتلة، مرورًا بشمال شرق سوريا، وصولًا إلى مناطق كردستان العراق. ولتحقيق هذا الطموح على أرض الواقع، يُفترض أن يخترق الممر سلسلة من المناطق السورية الحيوية، بدءًا من محافظة القنيطرة المحاذية للجولان، ثم محافظتي درعا والسويداء في الجنوب السوري، وصولًا إلى منطقة التنف الحدودية مع العراق، ومنها إلى مدينتي البوكمال ودير الزور الواقعتين على نهر الفرات، واللتين تعتبران بوابتين إستراتيجيتين نحو شمال شرق سوريا والعراق.

لا يمكن فهم مشروع ممر داود بمعزل عن الأهداف الإسرائيلية الأوسع نطاقًا في المنطقة. فهو يتجاوز مجرد كونه رابطًا جغرافيًا، ليحمل في طياته تطلعات استراتيجية وسياسية واقتصادية تخدم المصالح الإسرائيلية العليا. وفي هذا السياق الإقليمي المعقد والمتغير، يثور تساؤل محوري وملح: كيف ستتعامل الأطراف الإقليمية والدولية المعنية مع هذا المشروع الطموح؟ وما هي التداعيات المحتملة لتنفيذه، أو حتى استمرار طرحه كفكرة، على وحدة الأراضي السورية واستقرارها وهويتها الوطنية؟ إن الإجابة على هذه التساؤلات المعقدة تستلزم تحليلًا معمقًا لجذور المشروع وأهدافه المعلنة والخفية، بالإضافة إلى استشراف السيناريوهات المستقبلية المحتملة وتأثيرها العميق على مستقبل سوريا والمنطقة بأسرها.

جذور وأهداف مشروع ممر داود:
إنَّ فكرة مشروع "ممر داود الإسرائيلي" ليست وليدة اللحظة الراهنة، بل تمتد بجذورها عميقًا في تربة الطموحات الصهيونية القديمة. فمنذ بدايات تشكل الكيان الإسرائيلي، راودت القيادات الصهيونية أحلام بتوسيع نفوذ إسرائيل الإقليمي وترسيخ مكانتها كقوة مهيمنة في المنطقة. وفي هذا السياق التاريخي، يتبدى مشروع ممر داود كإحدى تجليات هذه التطلعات الإستراتيجية بعيدة المدى.

الجذور التاريخية للمشروع:
يمكن تتبع خيوط هذا المشروع إلى محاولات إسرائيلية تاريخية سعت بشكل ممنهج لتقويض وحدة الدول العربية المحيطة بها. وتبرز في هذا السياق "خطة ينون"، التي وُضعت في عام 1982، كمثال صارخ على هذه الاستراتيجية. فقد ارتكزت هذه الخطة على مبدأ "تفتيت المفتت"، داعيةً إلى إعادة ترسيم خريطة المنطقة وتقسيم الدول الكبرى إلى دويلات صغيرة ضعيفة متناحرة على أسس عرقية وطائفية. وفي صميم هذه الرؤية التقسيمية، حلمت إسرائيل بإنشاء كيانات طائفية ضعيفة ومجاورة تعمل بمثابة حزام أمني يخدم مصالحها الإستراتيجية. وكان من بين هذه الكيانات المتخيلة إقامة كيان درزي في جنوب سوريا. ولم تقتصر هذه الفكرة على مجرد تصور نظري، بل حاولت إسرائيل بالفعل في سبعينيات القرن الماضي تفعيل هذه الخطة، إلا أنها أُحبطت بفضل وعي وتعاون القيادات الدرزية آنذاك مع القيادات اللبنانية والسورية، التي أدركت مبكرًا خطورة هذه المخططات على الأمن القومي العربي.

الأهداف الحالية للمشروع:
مع التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا والمنطقة في السنوات الأخيرة، ولا سيما بعد سقوط نظام الأسد وما تلاه من فراغ أمني وتعقيدات جمة في المرحلة الانتقالية، عادت فكرة مشروع ممر داود لتطفو على السطح بقوة. ويبدو أن الأهداف الحالية للمشروع تتجاوز مجرد الربط الجغرافي، لتشمل إعادة تشكيل المشهد السوري جذريًا بما يخدم المصالح الإسرائيلية بشكل مباشر. تتمثل إحدى أبرز هذه الأهداف في التقسيم الفعلي لسوريا إلى كيانات منفصلة. تتضمن هذه الرؤية الإسرائيلية إبقاء مناطق الغرب والشمال السوري تحت سيطرة حكومة مركزية ما، بينما يتم اقتطاع مناطق الشرق والجنوب لتشكيل كيانات مستقلة أو شبه مستقلة ذات طابع كردي ودرزي. هذا التقسيم يتماشى بشكل واضح مع المخططات الإسرائيلية القديمة التي تهدف إلى إضعاف الدول المجاورة وتحويلها إلى كانتونات صغيرة ومتناحرة. وفي سياق سعيها الحثيث لتحقيق هذه الأهداف، تحاول إسرائيل استغلال حالة الفراغ الأمني وعدم الاستقرار المتزايد في الجنوب السوري. وتعمل على زعزعة استقرار هذه المنطقة واستمالة الطائفة الدرزية بحجة توفير الحماية لها من التهديدات المحتملة. وقد تجلى ذلك بوضوح في محاولات إسرائيلية للتواصل مع فئات معينة من الدروز وتقديم الدعم لها، وهو ما ظهر جليًا خلال الاشتباكات الأخيرة في جرمانا وصحنايا والسويداء، حيث لوحظ تحريض إلكتروني واسع النطاق يدعو للانفصال، وثبت تورط حسابات إسرائيلية واسعة فيه بشكل ممنهج. علاوة على ذلك، يمكن اعتبار تسمية الحملة العسكرية الإسرائيلية الأخيرة على سوريا في أواخر عام 2024 باسم "سهم باشان" دليلًا إضافيًا على الأهداف الإسرائيلية في جنوب سوريا. فـ"باشان" هو اسم منطقة في جنوب سوريا ورد ذكرها في التوراة، وهو ما يحمل دلالات رمزية وتاريخية عميقة تشير إلى الأهمية الإستراتيجية التي توليها إسرائيل لهذه المنطقة في مخططاتها المستقبلية.

باختصار، إنَّ مشروع ممر داود ليس مجرد فكرة عابرة أو طموحًا مؤقتًا، بل هو جزء لا يتجزأ من إستراتيجية إسرائيلية طويلة الأمد تهدف إلى إعادة رسم خريطة المنطقة بما يخدم مصالحها الأمنية والإستراتيجية، مستغلة الظروف الإقليمية المتغيرة لتحقيق طموحاتها القديمة في تقسيم سوريا وإقامة كيانات موالية أو ضعيفة على حدودها الشمالية والشرقية.

ردود الفعل والتحديات:
بالرغم من المحاولات الإسرائيلية الحثيثة لتمرير مشروع ممر داود واستغلال الظروف الإقليمية المعقدة لتحقيق أهدافها، فقد واجهت هذه المخططات ردود فعل متباينة، إلا أنها في مجملها تشير إلى وعي متزايد بخطورة هذه الأجندة وتصميم راسخ على الحفاظ على وحدة الأراضي السورية ونسيجها الاجتماعي المتنوع.

ردود الفعل المحلية:
لقد تجلى الرفض الشعبي للمخططات الإسرائيلية بوضوح في مواقف مختلف مكونات الشعب السوري. ففي محافظة السويداء، التي يُفترض أنها مركز الكيان الدرزي الذي تحلم به إسرائيل، خرجت مظاهرات حاشدة إلى الساحات العامة معبرة عن رفض قاطع لأي شكل من أشكال الحماية أو التدخل الإسرائيلي المزعوم. وقد أكد المتظاهرون في صوت واحد على هويتهم الوطنية السورية وولائهم لوحدة البلاد وسلامة أراضيها، رافضين أي محاولة لشق الصف أو إثارة النعرات الطائفية. وبالمثل، أظهر أهالي محافظة درعا في الجنوب السوري موقفًا وطنيًا راسخًا عندما تصدوا ببسالة لأي محاولات توغل إسرائيلية أو زعزعة للاستقرار في مناطقهم، مؤكدين بذلك رفضهم القاطع لأي أجندة خارجية تسعى لتقويض أمن واستقرار محافظتهم والجنوب السوري عمومًا. وعلى صعيد سياسي أوسع، حمل الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين الحكومة السورية الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) دلالات بالغة الأهمية. فقد أكد الطرفان بوضوح على أن الأكراد هم جزء أصيل من النسيج الوطني السوري، وأن حماية حقوقهم الوطنية واندماجهم الكامل في سوريا الموحدة يمثل أولوية وطنية قصوى. هذا الاتفاق يمثل ضربة قوية للمخططات الإسرائيلية التي كانت تسعى لخلق كيانات منفصلة على أسس عرقية، ويؤكد على إصرار القوى الوطنية السورية على الحفاظ على وحدة البلاد وتنوعها الغني.

تحديات وحدة الأراضي السورية في مواجهة المشروع:
في ظل هذه التطورات والمخططات الإسرائيلية الطموحة، تزداد بشكل ملحوظ أهمية فهم السياق الإستراتيجي لوحدة الأراضي السورية باعتبارها حائط صد أساسي في مواجهة هذه الأطماع الخارجية. إن الحفاظ على وحدة سوريا ليس مجرد ضرورة وطنية للحفاظ على كيان الدولة وهويتها الحضارية، بل هو أيضًا عامل استقرار إقليمي حيوي يمنع تفكك المنطقة ودخولها في سلسلة لا تنتهي من الصراعات طويلة الأمد التي تخدم في نهاية المطاف أجندات خارجية تسعى لتقويض الأمن الإقليمي. من هنا، يصبح من الضروري للغاية الوعي العميق بالنتائج الكارثية المحتملة لأي محاولة لتأجيج الصراعات الداخلية أو التحريض ضد أي مكون من مكونات الشعب السوري. فمثل هذه المحاولات لن تخدم سوى الأهداف الإسرائيلية الرامية إلى إضعاف سوريا وتقسيمها، وستفتح الباب على مصراعيه أمام المزيد من التدخلات الخارجية وزعزعة الاستقرار الإقليمي الهش. لذلك، فإن الوعي الكامل بالمخططات الإسرائيلية وأهدافها في المنطقة يمثل خطوة أولى وحاسمة في إفشال هذه الأجندة. ويتطلب ذلك تعزيز الوحدة الوطنية والتكاتف الحقيقي بين جميع مكونات الشعب السوري، وفضح المحاولات المغرضة الرامية إلى بث الفرقة والتحريض على الانقسام، والتمسك بالهوية الوطنية الجامعة التي تتجاوز الانتماءات الضيقة وتحمي سوريا من براثن التفكك والتبعية. إن إدراك خطورة المشروع الإسرائيلي والتحرك الموحد والواعي لمواجهته هو الضمانة الحقيقية للحفاظ على وحدة سوريا وسيادتها ومستقبلها المستقر والآمن.

خاتمة:
خلاصة القول، وبعد استعراض معمق لجوانب مشروع "ممر داود الإسرائيلي"، يتضح جليًا أن هذا المخطط لا يمثل مجرد فكرة عابرة أو طموحًا ظرفيًا، بل يستند إلى جذور تاريخية عميقة في الطموحات الصهيونية لتوسيع النفوذ الإقليمي الإسرائيلي وتقويض وحدة الدول المجاورة. فالأهداف المعلنة والخفية لهذا المشروع، والتي تتضمن ربطًا جغرافيًا إستراتيجيًا يمتد من الجولان المحتل إلى شمال شرق سوريا وكردستان العراق، وصولًا إلى محاولات إعادة تشكيل سوريا وتقسيمها إلى كيانات طائفية وعرقية ضعيفة، تشير بوضوح إلى أجندة إسرائيلية تسعى لفرض واقع جديد يخدم مصالحها الإستراتيجية على حساب استقرار المنطقة ووحدة أراضيها. مما لا شك فيه أن مشروع ممر داود يمثل تهديدًا حقيقيًا ومباشرًا لوحدة الأراضي السورية ولسيادتها الوطنية. فمن خلال السعي الحثيث لتقسيم البلاد وتأجيج النعرات الطائفية والعرقية، يهدف هذا المشروع في نهاية المطاف إلى إضعاف سوريا وتحويلها إلى ساحة صراع دائم، مما يفتح الباب واسعًا أمام المزيد من التدخلات الخارجية ويقوض أي جهود حقيقية لتحقيق الاستقرار والسلام المستدام في المنطقة بأسرها. وفي مواجهة هذه المخططات الخطيرة، تبرز أهمية الوعي الكامل بخطورة هذا المشروع وأهدافه الخفية كخطوة أولى وحاسمة لإفشاله. إن تكاتف جهود جميع مكونات الشعب السوري، وإدراكهم العميق للمخاطر المحدقة بوحدة بلادهم وسلامة أراضيهم، يمثل خط الدفاع الأول والأساسي في مواجهة هذه الأطماع الخارجية. فمن خلال تعزيز الوحدة الوطنية ونبذ الفرقة والانقسام، يستطيع السوريون إحباط أي محاولة لتقويض سيادة بلادهم ومستقبلها. ومما يدعو إلى التفاؤل أن رفض مكونات الشعب السوري المختلفة، سواء في الجنوب أو الشمال الشرقي، للمخططات الإسرائيلية يمثل خطوة مهمة وقوية في طريق إفشال هذا المشروع. فإصرار الدروز على هويتهم الوطنية السورية، وتصدي أهالي درعا لمحاولات التوغل، والاتفاق الإستراتيجي بين الحكومة السورية الجديدة وقسد على وحدة الأراضي السورية، كلها مؤشرات واضحة على أن محاولات التقسيم لن تجد لها موطئ قدم راسخًا في وجدان الشعب السوري وتطلعاته نحو مستقبل مستقر وموحد.

ختامًا، إنَّ إفشال مشروع ممر داود الإسرائيلي يتطلب يقظة مستمرة، وتضافرًا حقيقيًا للجهود على كافة الأصعدة، وتمسكًا راسخًا بوحدة الأراضي السورية وهويتها الوطنية. إن وعي الشعب السوري بمخاطر هذا المشروع وإصراره الصلب على رفضه هو الضمانة الأقوى للحفاظ على مستقبل سوريا واستقرار المنطقة بأسرها وبناء غدٍ أفضل للأجيال القادمة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.