في عالم الدبلوماسية المعقد، تتداخل التحديات السياسية والاقتصادية مع تعقيدات الأيديولوجيات، وتبرز المملكة العربية السعودية كنموذج للبراغماتية والحكمة في إدارة الأزمات الإقليمية. يُعتبر الاتفاق السعودي الإيراني، الذي وُقّع في العاشر من مارس عام 2023 بوساطة صينية، بمثابة دليل على براعة الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، في قيادة استراتيجية دبلوماسية متكاملة. فقد جمعت هذه الاستراتيجية بين الضغط السياسي والاقتصادي والمرونة في التفاوض، لتقود إيران إلى طاولة المصالحة من موقع قوة سعودي، في خطوة تتماشى مع رؤية المملكة 2030 الهادفة إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي والتنمية المستدامة.
تعود جذور التوترات بين السعودية وإيران إلى عقود من التنافس الأيديولوجي والسياسي، وقد تفاقمت في السنوات الأخيرة نتيجة دعم إيران لجماعات مسلحة مثل الحوثيين في اليمن، الذين هددوا الأمن السعودي بالصواريخ والطائرات المسيّرة. في هذا السياق، أطلق الأمير محمد بن سلمان تصريحات قوية في الثاني من مايو عام 2017 خلال مقابلة مع قناة العربية، حيث قال: "كيف أتفاهم مع نظام يؤمن بأن قتلي يُدخله الجنة؟" وأضاف: "لن ننتظر حتى تصبح المعركة في السعودية، بل سنعمل لتكون المعركة في إيران". وعلى الرغم من حدة هذه التصريحات، فإنها لم تكن دعوة لصراع عسكري، بل كانت جزءًا من استراتيجية ردع سياسي تهدف إلى تسليط الضوء على التحديات الأيديولوجية مع إيران وحشد الدعم الدولي لمواجهة نفوذها، مع الحفاظ على التزام المملكة بميثاق الأمم المتحدة ومبادئ حسن الجوار.
لم تقتصر الاستراتيجية السعودية على الخطاب السياسي، بل امتدت إلى فرض ضغط اقتصادي فعّال. دعمت المملكة العقوبات الدولية على إيران بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي (JCPOA) في الثامن من مايو عام 2018، معلنة استعدادها لتعويض النقص في إمدادات النفط العالمية الناتج عن تلك العقوبات، مما زاد الضغط على الاقتصاد الإيراني الذي عانى من تراجع حاد في صادراته النفطية. عزز هذا النهج، الذي استغل النفوذ السعودي في أسواق الطاقة، عزلة إيران اقتصاديًا، مما جعلها أكثر انفتاحًا على الحوار. وفي الوقت نفسه، رفضت السعودية أي تدخل عسكري مباشر داخل إيران، حتى في أوج التوترات، مثل الهجوم الذي شنّه الحوثيون على منشآت أرامكو في الرابع عشر من سبتمبر عام 2019، حيث اكتفت المملكة بالدعوة إلى تحقيق دولي وتعزيز دفاعاتها.
تجلت براعة الأمير محمد بن سلمان في التحول الدبلوماسي الذي بدأ يتبلور بحلول عام 2021. ففي مقابلة أخرى مع قناة العربية في الثامن والعشرين من أبريل عام 2021، عبّر الأمير عن رغبته في بناء "علاقات طيبة ومميزة" مع إيران، مؤكدًا أن ازدهارها يصب في مصلحة المنطقة. لم يكن هذا التحول في الخطاب تنازلًا، بل خطوة استراتيجية من موقع قوة، حيث استغل الأمير الضغوط السابقة لخلق بيئة مواتية للتفاوض. وتجسدت هذه المرونة في مشاركة السعودية في جولات حوار مع إيران في بغداد برعاية عراقية عام 2021، مما مهد الطريق لتخفيف التوترات.
بلغت هذه الجهود ذروتها في العاشر من مارس عام 2023، عندما أُعلن عن اتفاق استئناف العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران بوساطة صينية. يعكس اختيار الصين كوسيط بعد نظر الأمير محمد بن سلمان، حيث استفادت المملكة من نفوذ الصين الاقتصادي والسياسي كقوة عالمية محايدة تربطها علاقات قوية بالطرفين، مما عزز مصداقية الاتفاق. لم يكن هذا الاتفاق مجرد تسوية دبلوماسية، بل نتيجة استراتيجية طوّقت إيران سياسيًا واقتصاديًا، حيث دفعتها العقوبات الدولية، بدعم سعودي، والعزلة السياسية الناتجة عن تحالفات المملكة القوية مع دول الخليج والولايات المتحدة، إلى طلب المصالحة.
يتماشى هذا الإنجاز مع رؤية المملكة 2030، التي تجعل من الاستقرار الإقليمي ركيزة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية. فمن خلال الجمع بين الضغط السياسي والاقتصادي والمرونة الدبلوماسية، أثبت الأمير محمد بن سلمان قدرة استثنائية على تحويل التحديات الإقليمية إلى فرص لتعزيز مكانة السعودية كقوة دبلوماسية رائدة. إن الاتفاق السعودي الإيراني ليس فقط شهادة على براعة الأمير، بل هو تأكيد على التزام المملكة بالقوانين الدولية، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة ومبادئ حسن الجوار، وهو ما يعزز رؤيتها لمستقبل مزدهر ومستقر.
في الختام، يظهر مسار إدارة الأزمة مع إيران، من تصريحات الردع في عام 2017 إلى الاتفاق الدبلوماسي في عام 2023، حكمة الأمير محمد بن سلمان في قيادة الدبلوماسية السعودية. فبفضل استراتيجية متكاملة، تمكّنت المملكة من دفع إيران إلى طاولة المصالحة من موقع قوة، مؤكدةً دورها كمحور للاستقرار الإقليمي وصانعة للسلام، في خطوة ستظل محطة بارزة في تاريخ السياسة الخارجية السعودية.