سوق الهرج، إحدى الأسواق الشعبية المعروفة في بغداد قديماً وحديثاً، وفيه ترتفع الأصوات، وتختلط مع بعضها، كلٌّ يعلن عن بضاعته، ويدعو الجمهور لشرائها، والآن يحدث في بغداد ما يشبه سوق الهرج السياسي. حيث تضج الأصوات في الإعلام والأغاني والأهازيج معلنة عن تشكيلات سياسية وقوائم تستعد لخوض الانتخابات البرلمانية، بالرغم من أن موعدها لم يحن إلا بعد خمسة أشهر مقبلة.
شخصيات سياسية تتجمع مع بعضها لتعلن عن ائتلافات سياسية انتخابية، وأحزاب جديدة ترتفع أصواتها مشجّعة الآخرين على تجديد بطاقة الناخب، وأحزاب تقليدية معمّرة في السلطة ومجلس النواب تتثاءب باسترخاء الضامن بالفوز، لأن بيدها السلطات والقرارات والقدرة على تغيير دفة السفينة الحكومية (رئاسة الوزراء) التي لا تخرج عن ربابنتها!
سوق هرج انتخابي، هذا يوزّع أجهزة تبريد في صيف بلا كهرباء، وأخرى توزّع هدايا كهربائية رخيصة، وثالث يمنح أرزاقاً غذائية، ورابع يعِدهم بالجنة، وخامس يحذّرهم خيفة من أن يفلت الحكم من أتباع أهل البيت!
أمَّا أصحاب رؤوس الأموال المليارية فتلك ساحة أخرى، بدأت تُعدّ العدّة لخوض انتخابات وحجز مقاعد فاعلة في مجلس النواب، تعطيهم الحصانة وتُبعد عنهم المساءلة لأربع سنوات مقبلة، عوضاً عن التوسّل وشراء هذا المسؤول، أو مشاركة ذاك الوزير أو تفريق الرشاوى على الجهات الرقابية والبرلمانية والميليشياوية وغيرها!
الانتخابات المقبلة سوف تشهد زحف كبار اللصوص وحيتان الفساد نحو مجلس النواب، هؤلاء أصبحت أعدادهم بالمئات وربما بالآلاف، بعضهم هيّأ نفسه وآخرون يُجهّزون الأموال والعاملين في شركاتهم وإجبارهم على اختيار أبنائهم المرشحين، وإلا سوف يتعرّضون للطرد من العمل، آخرون ذهبوا من الآن لشراء بعض كبار شيوخ العشائر والقبائل لتأمين كسب أصوات أفراد قبائلهم.
انتخابات العراق أصبحت تعبيراً عن بورصة لشراء الأصوات ومنح الوظائف والتعيينات في دوائر الدولة، كذلك منح العقود والصفقات المالية، والجميع يوعِد الشعب بالإنجازات والمكاسب والتغيير والإصلاح، وأعلى الأصوات المرتفعة في سوق الهرج السياسي تعود إلى كبار الفاسدين المتموضعين في السلطة التنفيذية والتشريعية!
أكثر من 350 حزباً مُجازاً ومُسجّلاً بمفوضية الانتخابات، وتلك ميزة جعلت العراق أكثر بلد بالعالم في عدد الأحزاب، وجميعها تزحف نحو السلطة للحصول على الثروة والنفوذ، في ظل فوضى الفساد الذي لم يشهد التاريخ مثيلاً له، بل أصبح واقعاً طبيعياً بعد أن صُدم العالم بسرقات القرن المليارية وصفقات القرن غير المسبوقة في تاريخ الفساد، ونهب كل ما يمكن نهبه من أصول الدولة العراقية والممتلكات العامة، والخاصة أيضاً.
سوق الهرج السياسي سوف يشهد دخول أعداد أخرى من الباعة والزبائن كلما اقتربت الانتخابات، والشعب العراقي في حيرة من أمره، بعد أن فقد الأمل بالتغيير في خمس دورات انتخابية سابقة لم يحصد منها سوى الخيبات والأزمات، لهذا قرّر مقاطعة الانتخابات بنسبة تربو على 80 بالمئة في الدورتين الأخيرتين!
تدوير نتائج الانتخابات وتكييفها وفق مصالح الطبقة السياسية المتسلطة والنافذة منذ 22 سنة، وبدعم الأقطاب الدولية الفاعلة في العراق، وإذا كانت مهرجانات وفعاليات الاستقطاب الطائفي تشتغل في الدورات الأولى، فإن المتغير الآن يأتي بصراع رؤوس الأموال للسيطرة على السلطة التشريعية والإطباق على السلطتين التشريعية والتنفيذية. ومن هنا أعتقد أن حجم المقاطعة للانتخابات المقبلة إن حدثت، سوف يزداد أكثر من الدورات السابقة!