: آخر تحديث

الحجاج... اليد التي أنقذت الدولة

2
2
3

لم يُحط أحد في تاريخ الإسلام بما أُحيط به الحجاج بن يوسف الثقفي من جدلٍ وهجوم، حتى بات اسمه مقروناً بالبطش في أذهان كثيرين، متجاهلين السياقات المعقدة التي حكمت زمنه، والدور الجوهري الذي لعبه في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية في أشد مراحلها اضطراباً.

فهل كان حقاً جلاداً سفاكاً كما صوّرته بعض الروايات المتأخرة؟ أم كان رجل دولة محنكاً، استخدم الشدة أداةً لإنقاذ دولة كانت تتهاوى بين أيدي الخلفاء الضعفاء والثورات المتناحرة؟

وُلد الحجاج في الطائف عام 40 للهجرة في بيت متواضع، لكنه سرعان ما صعد في السلم السياسي بقوة شخصيته، وبلاغته النادرة، وولائه المطلق للدولة الأموية. وقد جعله ذلك محط أنظار الخليفة عبد الملك بن مروان، الذي كلفه بأخطر مهمة في تاريخ الخلافة الأموية: القضاء على تمرد عبد الله بن الزبير في مكة، وهو التمرد الذي كاد أن يقسم الدولة الإسلامية.

قاد الحجاج الجيش الأموي، وحاصر مكة بعدما أعطى الأمان لكل من اعتزل الفتنة. وعندما رفض ابن الزبير الاستسلام، دارت رحى معركة حاسمة انتهت بقتله، وإعادة الحجاز إلى سلطة الدولة المركزية. ورغم ما أُثير حول قصف مكة بالمنجنيق، فإنَّ مصادر موثوقة، منها ما أورده الطبري وابن كثير، تشير إلى أنَّ الحجاج لم يتعمد استهداف الكعبة، بل وقعت الإصابات عرضاً أثناء الاشتباكات، وهو أمر تكرر في أكثر من ثورة تاريخية، ولم يُوصف فيه الآخرون بما وُصف به الحجاج.

لم يكن الحجاج مجرد قائد عسكري، بل رجل إدارة من الطراز الأول. حين ولاه عبد الملك على العراق، كان الإقليم غارقاً في الفوضى، يعج بالثورات القبلية والمذهبية، ويعاني من فساد واسع في جهاز الدولة. وخلال أشهر تمكّن الحجاج من فرض النظام، وتثبيت الأمن، وتطبيق العدالة. وأعاد تنظيم الضرائب، وفرض الانضباط في الجباية، فكان أول من ألزم عمال الدولة بترك النهب والتعدي على الأموال العامة. ومن أعظم إنجازاته التي قلّما تُذكر، أمره بتنقيط المصحف الشريف وتشكيله، حمايةً للنص القرآني من الخطأ والتحريف، بالتعاون مع علماء كبار أمثال نصر بن عاصم ويحيى بن يعمر. كما عرّب الدواوين، فحوّل إدارة الدولة من الفارسية والرومية إلى العربية، في خطوة مفصلية عززت الهوية الثقافية والحضارية للإسلام.

أما في الفتوحات، فقد كان الحجاج هو العقل المدبر وراء أعظم توسع إسلامي في الشرق. أرسل قتيبة بن مسلم الباهلي لفتح بلاد ما وراء النهر، فدخلت بخارى وسمرقند تحت راية الإسلام. كما أرسل ابن عمه محمد بن القاسم لفتح السند، فأسس بذلك نواة النفوذ الإسلامي في شبه القارة الهندية، وهو إنجاز استراتيجي لا يقل عن فتوحات الخلفاء الراشدين.

ويُخطئ كثيرون حين يرون أن الحجاج سفك الدماء لمجرد الشهوة أو التسلّط، فالرجل كان مؤمناً بمشروع الدولة، وأدرك أن الفوضى الدموية لا تُواجه باللين. أراد أعداؤه، من الكوفيين والخوارج، إسقاط الدولة الأموية من الداخل، فرأى في الحزم وسيلة للبقاء. ومن غير المنطقي أن نطالب رجلاً وُضع في قلب تمردات متتالية، أن يحكم كفيلسوف في زمن السكينة.

بل إن من الإنصاف أن نقول: لم يُسجل على الحجاج فساد مالي، ولا طلب سلطان لنفسه، ولا خرج على خليفة، ولم يُعرف عنه ميلٌ للترف أو مظاهر الملك، بل كان زاهداً في دنياه، شديداً على نفسه كما كان على غيره. وقد مات دون أن يترك لنفسه قصراً يُذكر، أو مالاً يُتنازع عليه.

وأكثر ما ساهم في تشويه سمعته كان نتاج روايات متأخرة، كتلك التي دوّنها المدائني وأبو مخنف، المعروفين بعدائهم للأمويين، وتلقّفها أدباء وشعراء – مثل الفرزدق والراعي النميري – لأسباب طائفية أو سياسية أو حتى نفعية. أما المؤرخون المعتدلون مثل ابن كثير والذهبي، فقد وصفوه بالحزم والكفاءة، وأقرّوا بإنجازاته، مع تحفظهم على شدته.

ولعل أبلغ ردّ على ما قيل فيه، هو أن خصومه في زمنه – بالرغم من كراهيتهم – لم يتهموه بالكذب أو الخيانة. كانوا يهابونه، ويحترمون عدله حين يتعلق الأمر بحقوق الناس. فهل يكون الطاغية محبوباً عند الرعية إذا صلُحت أحوالهم؟ لقد كانت الشكوى من شدته على الخارجين عن النظام، لا من ظلمه للمستضعفين.

إنَّ الحجاج لم يكن قديساً، لكنه لم يكن شيطاناً كما صوّرته الأقلام المنحازة. لقد مثّل قوة القانون في زمن الانفلات، وحافظ على وحدة الأمة حين كانت تتنازعها السيوف والعقائد. وأولئك الذين يستسهلون الحكم عليه بمعايير اليوم، ينسون أن الدولة الأموية كانت تقاتل على أكثر من جبهة، وأن النجاة من الانهيار كانت تتطلب حُكّاماً من طراز الحجاج… لا من طراز الوعّاظ.

ولو قُدّر للحجاج أن يُحكم اليوم من خلال مؤسسة حيادية، لأُعيد اعتباره لا كجلاد، بل كأحد أعظم رجالات الإدارة والسياسة في تاريخ الإسلام، رجل لم يخن أمانة، ولم يطعن في ولاء، ولم يساوم على أمن الدولة، حتى وهو يُدرك أن التاريخ سينحاز لخصومه لأنهم أصحاب القلم.

وهكذا يبقى السؤال العادل: هل يمكن أن تكون الشدة عدلاً؟ وهل يحق لنا أن نلوم من أنقذ الأمة حين كادت تضيع… لأنه لم يبتسم وهو يفعل؟

الحجاج كان اليد التي أنقذت الدولة. ولم تكن يداً ناعمة. لكنها كانت اليد التي لم ترتجف.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.