: آخر تحديث

في سوريا.. نظام نقدي مشلول!

0
0
1

في ظل واقع اقتصادي خانق ومعقد، يقف المواطن السوري حائراً أمام معادلة نقدية تبدو للوهلة الأولى غير منطقية: الليرة السورية ترتفع على الورق، لكنها تغيب من أيدي الناس، وأسعار السلع تبقى على حالها أو ترتفع، في تناقض صارخ بين المؤشرات الرسمية والتجربة اليومية للمواطن.

في هذا المناخ المضطرب، نشأت ظاهرة جديدة ومقلقة تتمثل في تصريف العملات الأجنبية عبر الحسابات البنكية الشخصية، وهي طريقة ملتوية أصبحت تشكّل بديلاً عن السوق السوداء التقليدية، بل تنافسها بأسعار أعلى وأكثر إغراءً للمواطن الباحث عن السيولة. يقوم البعض بعرض تحويلات بالدولار مقابل الليرة السورية عبر وسطاء أو صفحات إلكترونية، وفق أسعار تصاعدية مرتبطة بحجم الحوالة، ما يجعل من الدولار سلعة تُدار بآليات المضاربة.

هذه الممارسات، ليست مجرد استثناءات فردية، بل باتت ظاهرة واسعة الانتشار تُغذيها عدّة عوامل، أهمها: القيود المشددة على السحب النقدي من المصارف، وتجميد أموال ضخمة في منصات تمويل المستوردات الرسمية، فضلاً عن الحاجة اليومية المتزايدة للسيولة، حتى لو تطلّب الأمر خسارة جزء من القيمة الفعلية للأموال.

النتيجة؟ نظام نقدي مشلول، حيث تُباع الأموال ضمن الحسابات البنكية بأسعار متفاوتة، ويضطر المواطن إلى القبول بعمليات فيها قدر كبير من المخاطرة والاستغلال، ليحصل على ما يكفي من "كاش" لتسيير أموره المعيشية. وهذا ما دفع البعض، إلى بيع الدولار بـ18 ألف ليرة في بعض الحالات، بالرغم من أن السعر الرسمي لا يتجاوز 12 ألف ليرة، أي أن الخسارة قد تصل إلى 50 بالمئة من قيمة المبلغ الأصلي.

ولعلّ ما يُقلق أكثر من الخسارة الفردية، هو الانعكاسات الخطيرة لهذه الظاهرة على الاقتصاد الوطني: ومنها تشويه سوق الصرف عبر توسيع الفجوة بين السعر الرسمي والسوق الموازي، وغياب أي مؤشر حقيقي يعكس العرض والطلب، وتفشي قنوات مالية غير خاضعة للرقابة ما قد يفتح الباب أمام تبييض الأموال، وتمويل أنشطة مشبوهة، وفقدان الثقة بالمصارف حين يُجبر المواطن على البحث عن بدائل غير رسمية، ينهار الدور الأساسي للمصرف المركزي كمصدر للثقة المالية.

هذه الممارسات لا تتم في فراغ، بل تستفيد منها شبكات منظمة ـ قد تكون سماسرة أو متنفّذين ـ تتغذى على الفوضى وتُراكم الثروات من خلال امتصاص الدولارات من السوق وتدويرها خارج القنوات الرسمية.

وهذا ما يعني أن المصرف المركزي يُطلب منه الخروج من حياده، عبر سلسلة من الإجراءات التصحيحية، وأهمها: تقليص الفجوة بين السعر الرسمي والسوق الموازي، عبر تعديل سعر الصرف ليعكس الواقع الاقتصادي الحقيقي، ورفع سقف السحوبات النقدية اليومية لتقليل اعتماد المواطنين على السوق غير الرسمي، بالإضافة إلى تشديد الرقابة على التحويلات الكبيرة والمشبوهة، بهدف الحد من المضاربة وغسيل الأموال.

الفوضى النقدية في سوريا لم تعد مجرد عرض لأزمة أوسع، بل باتت في حد ذاتها أزمة بنيوية. التصريف عبر الحسابات البنكية لا يُعد حلاً، بل هو مظهر من مظاهر الانهيار التدريجي للنظام المالي الرسمي، وهو ناقوس خطر يجب أن يُقرَع بقوة.

المطلوب اليوم ليس مجرد تدخل تقني في السوق، بل إعادة بناء الثقة المفقودة بين المواطن والدولة، وبين العملة والمجتمع.

ما نشهده اليوم في السوق النقدي السوري لا يعكس مجرد اضطراب عابر، بل أزمة بنيوية تكشف هشاشة النظام المصرفي أمام ضغوط الواقع. وإذا لم تُتخذ خطوات إصلاحية جادة، فإن الفوضى في تصريف العملات قد تتحول إلى بوابة لفقدان السيطرة الكاملة على السوق النقدي، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات اقتصادية واجتماعية بالغة الخطورة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.