أثبتت زيارة الرئيس الأميركي (دونالد ترامب) للمنطقة، ممثلة بدول الخليج العربي، أن أغلب الأنظمة العربية ما زالت تعيش خارج منظومة التاريخ، قبل السياسة، في هذا العالم.
بل إن أغلب الأنظمة العربية، التي ما زالت ترفع الشعارات (الكبيرة)، كالممانعة والثورجية و(أميركا عدوة الشعوب)، هي ليست سوى مجموعة من السذج الذين تنطلي عليهم تصريحات البروبغندا وتصريحات جس النبض واختبار الفاعلية السياسية. شرق أوسط جديد، تقوم فكرته على تفتيت الدول العربية وتجزيء أوصالها الرخوة… وسايكس – بيكو جديدة، ستحيلهم إلى 44 أو 84 دولة، بدل دولهم القائمة، من دون أن يتوقف أي من هذه الأنظمة أمام سؤال: لماذا؟ أو: هل نحن بمثل هذه الهشاشة والضعف، لتفرض علينا أميركا أو غيرها مثل هذا الوضع المشين والمهين؟
بالتأكيد، فإنَّ الأنظمة التي ترتضي لنفسها أن تكون ضحية لما يطبخه ويصدره الإعلام لها، كخرائط الشرق الأوسط الجديد (وهي صارت أكثر مما تملك هذه الأنظمة من خرائط تنموية لبلدانها)، تستحق أن تكون ضحية لمثل هذه التقسيمات، فيما لو حدثت، ببساطة لأنها لم تحصن بلادها بفاعلية، سياسية وتخطيط وأدوات استراتيجية وبنى وركائز اقتصادية كبيرة، تستطيع حمايتها، وحماية بلدانها وشعوبها، وتوفر لها الأمن والاستقرار السياسي والاستراتيجي، بدل الاتكاء على الأساليب البوليسية القمعية، وخدعة خلق العدو الساذجة من أجل ترهيب شعوبها.
المهم، وبعد عشرات من خرائط تقسيم الشرق الأوسط الجديد، التي صدرتها مكائن إعلامية دعائية وضمن سقف الحروب النفسية والسياسية، ها هو دونالد ترامب (المرهون بإرادته تنفيذ تلك الخرائط، كما تدعي الأنظمة الثورجية) قد زار الشرق الأوسط، وهو في حدود خريطته الطبيعية. والتقى بقادة دول الخليج العربي، وعقد مع بلدان هؤلاء القادة اتفاقات استثمارية واقتصادية، بأرقام فلكية من الدولارات، من دون أن يهدد أو يذكر أي من تلك الخرائط التقسيمية. بل وعلى العكس من كل تهريج مكائن البروبغندا، أثنى على جهود قادة السعودية والإمارات وقطر بالذات، في إنماء بلدانهم وتوسيع قواعدها ومرتكزاتها الاقتصادية الفاعلة، وخاصة في قطاع التكنولوجيا الحديثة والمتطورة، إضافة لتنويع مصادر دخلها بمختلف القطاعات الصناعية والاستثمارية والتجارية. وليتضح لنا كمراقبين في النهاية، أن الشرق الأوسط الجديد، في رؤية ترامب ورؤية دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية بالذات، إنما هو يعني تطوير وإنماء هذا الشرق، بما يحفظ وحدة وسيادة بلدانه، لا بتمزيقها وتقسيمها، كما قرأت الوضع أنظمة الخيبة والتردي والعجز، التي تنعت نفسها وتنفخ أوداجها بالشعارات الرنانة وصراخ الخيبة وضياع الرؤية.
وبدل أن يأمر ترامب بتقسيم المملكة العربية السعودية إلى خمس دول (كما أشاعت خرائط الشرق التي يهذي ويرتجف البعض لضجيجها)، وبدل أن يأمر بتقسيم الإمارات العربية المتحدة إلى سبع إمارات متناحرة، رأيناه يثني على جهود زعمائها في بناء وتطوير بلدانهم، وسعيهم الحثيث والمدروس لتطويرها وإنمائها وتحصين وحدتها، بالمشاريع الاقتصادية والاستثمارية العملاقة ونهضاتها التعليمية والثقافية.
أكثر من خمسة عقود قضتها أنظمة العسكر والانقلابات والثورية ومحاور (الصمود والنضال والممانعة) في نحت وترويج شعارات التخوين والتخاذل والتبعية والتذلل و… وفي النهاية لم تثبت هذه التهم على غير مبتدعيها، من أنظمة العسكر، الذين أنفقوا سنوات حكمهم في نهب ثروات بلادهم واعتقال وتغييب وقتل مواطنيهم ومصادرة حرياتهم، إضافة إلى إهمال تلك الأنظمة لجميع مفاصل التنمية والنهوض الاقتصادي، لانشغالها ببناء الأجهزة البوليسية والقمعية التي تحفظ بقاءها في السلطة. بل إن أغلب هذه الأنظمة كانت قد كرست ثروات بلادها كلها في أساليب وأدوات المحافظة على كراسي تسلطهم وبطشهم، كعراق صدام والنظام الذي خلفه، ونظام حافظ الأسد، ونظام القذافي، وجعفر نميري، وعلي عبد الله صالح.
وإذا ما كانت الصورة التي رُوّج لها، للشرق الأوسط الجديد، قاتمة، على مستوى التوقعات والظنون، كمحاولة لإعادة توزيع دول المشرق العربي، على وجه التخصيص، كمراكز نفوذ وهيمنة، لموازين قوى وأطراف خارجية، فإن ما انجلى عنه غبار هذه الضجة الإعلامية المضخمة، لم يكن سوى صورة لاستقرار المنطقة، لعقود طويلة قادمة، بإرساء قواعد اقتصادية كبيرة، من منطلق تصور أن ما تعجز عن تحقيقه السياسة، بالتأكيد تحققه قاعدة المصالح والمشاريع الاقتصادية الكبيرة. وبالرغم من أن هذه الصورة هي التي تقدمت مشهد زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة، إلا أن تفرعاتها السياسية والأمنية، لم تقل عنها أهمية، وخاصة أنها سعت لإرساء قواعد السلام والاستقرار الأمني والسياسي، في دول هذا الشرق، كسوريا ولبنان، بؤرتي الصراع الأشد سخونة خلال العقود الثلاثة الماضية، بعد تحجيم دور المليشيات المأجورة فيها، تمهيداً لتصفيتها وتمكين حكومتي البلدين من قرارهما الأمني والسياسي وعودتهما لحاضنتهما العربية، بعد اختطاف عقود لقرارهما السياسي وسيادتهما، من قبل المليشيات الموالية للخارج. وهذا يعني في المحصلة، وهو الأهم طبعاً، أن دول الخليج العربي قد تحولت إلى أرقام صعبة في معادلة القرار الدولي وموازينه السياسية والاستراتيجية، وهذا هو ما انتظرته الشعوب العربية لعقود طويلة، ليتحقق لها أخيراً، في ظل الشرق الأوسط… الجديد بحكمة قادته لا بتقسيم خارطته.