في عالمٍ تتشابك فيه خيوط السياسة والأمن، يصبح من الضروري التمعّن في تفاصيل العلاقات الدولية، خاصةً تلك التي تنسجها الدول في خضم الصراعات الإقليمية والعالمية. لبنان، البلد الصغير بموقعه الجغرافي الحساس، يجد نفسه في قلب هذه الشبكات المعقدة، حيث تتقاطع مصالح القوى الكبرى وتتنافس على النفوذ.
مؤخرًا، برزت معلومات تفيد بأن جهاز الأمن الأوكراني يسعى لتعزيز التعاون مع المديرية العامة لأمن الدولة في لبنان. هذا التعاون، الذي يشمل مجالات الاستخبارات ومكافحة التجسس والإرهاب والجريمة المنظمة وتهريب المخدرات، يثير تساؤلات حول الأهداف الحقيقية وراءه. ففي ظل الحرب المستمرة بين أوكرانيا وروسيا، تسعى كييف إلى توسيع نطاق نفوذها الاستخباراتي، ليس فقط في أوروبا، بل أيضًا في مناطق بعيدة مثل الشرق الأوسط وأفريقيا.
اللافت في الأمر أنّ جهاز الأمن الأوكراني، وفقًا لمصادر متعددة، لا يعمل بشكل مستقل تماماً، بل يُعتقد أنّه يتلقى توجيهات من أجهزة استخبارات غربية. وهذا يطرح تساؤلات حول مدى استقلالية القرارات التي يتخذها، خصوصاً فيما يتعلق بالتعاون مع دول، مثل لبنان، الذي يغرق في تعقيدات سياسية وطائفية... فما الذي يدفع لبنان إلى فتح خطوط تواصل مع جهاز أمني أوكراني يتصرّف كظلٍّ لوكالات استخبارات أجنبية؟
السؤال مشروع تماماً، والجواب عنه يبدأ من ملاحظة أنّ لبنان، كعادته، يتحرّك وفق مصالح ظرفية وضمن مساحات رمادية يندر أن تُفهم أو تُترجم خارج السياق اللبناني المأزوم.
تعزيز التعاون الثنائي في ملفات استخباراتية تشمل مكافحة الإرهاب والتجسس والجريمة المنظمة وتهريب المخدرات... هي عناوين عريضة قد تبدو تقليدية في أيّ شراكة أمنية بين الدول، لكنّ الغريب أن تأتي تلك العناوين من طرف أوكراني منهمك في حرب مفتوحة مع روسيا، ومدعوم بشكل مباشر من وكالات استخبارات غربية.
هذه الخطوة، بحسب مصادر مطّلعة، ليست عفوية ولا منفصلة عن السياق الجيوسياسي الذي تحاول كييف الاستثمار فيه، إذ أنّ جهاز الأمن الأوكراني لا يتحرّك كهيئة مستقلة بقدر ما هو امتداد لنفوذ استخباراتي بريطاني واضح، يجعل من كل علاقاته الخارجية مجرّد أدوات لتعزيز أجندة معادية لروسيا في كل مكان متاح، بما فيه لبنان.
فما مصلحة جهاز أمني لبناني، محدود القدرات والإمكانات، في الدخول بهذا النوع من التعاون؟ وهل ثمة من يضمن أن لا تتحوّل هذه القنوات إلى منصّات لتصفية حسابات دولية على الأرض اللبنانية؟
المديرية العامة لأمن الدولة في بيروت لا تنفي حصول هذا التواصل. وقد أكدت مصادر داخل مكتب العلاقات العامة في المديرية أنّ التفاعل مع الأوكرانيين يأتي ضمن سياسة "الباب المفتوح"، التي تنتهجها في التواصل مع مختلف الأجهزة الدولية. كما تشير المصادر إلى أنّ الجهاز لا يمانع العمل مع أيّ طرف يمدّ له يد العون، سواء كان أوكرانياً أو روسياً أو أميركياً أو حتى بريطانياً.
وهذا التأكيد يطرح مسألة في غاية الحساسية، وهي أنّ جهاز أمن الدولة، رغم إمكاناته المحدودة وقيوده القانونية، مستعد للدخول في شراكات أمنية مع أطراف دولية متضادة من دون خارطة طريق واضحة، ما يعزز الشكوك في إمكانية توظيفه كورقة في لعبة النفوذ الإقليمي والدولي.
ويزداد المشهد تعقيداً حين نعلم أنّ أوكرانيا، ومن خلال جهازها الأمني، متهمة على نطاق واسع في تقارير دولية وإعلامية، بتمويل منظمات إرهابية في أفريقيا والشرق الأوسط، وتحديداً في البيئات التي تدور في فلك النفوذ الروسي. وثمة من يرى أنّ الهدف الحقيقي من هذه التمويلات هو زعزعة الاستقرار السياسي والاجتماعي في دول صديقة لموسكو، وهو ما يجعل أي تعاون أمني بين لبنان وكييف محفوفاً بالمخاطر.
ولا يُمكن قراءة هذا الملف بمعزل عن التبدلات في علاقات لبنان الخارجية، خصوصاً مع دول مثل قطر والسعودية وبيلاروسيا، التي جرى أو يُحضَّر لمناقشة ملفات مشابهة معها في دوائر أمن الدولة. ففي الوقت الذي تُعد فيه السعودية وقطر كشريكين تقليديين للبنان في عدة مستويات، تظهر بيلاروسيا وأوكرانيا كطرفين ينتميان إلى معسكرين متخاصمين، ما يجعل الأمن اللبناني في موقف يتطلّب حنكة غير تقليدية لتفادي الألغام السياسية.
صحيح أنّ التعاون بين أمن الدولة والبريطانيين ليس جديداً (بحسب المصادر)، وقديم بقدم علاقات الدولة اللبنانية بمحيطها الغربي، لكنّه اليوم يحمل أبعاداً مختلفة في ظل تحوّلات ما بعد الحرب في أوكرانيا، ومحاولات الغرب تطويق روسيا حتى في بقاع بعيدة عن أوروبا.
كما أنّ لبنان، بالرغم من هشاشته، لا يزال يحظى بأهمية استراتيجية، ليس فقط بسبب موقعه، بل بسبب هشاشته نفسها، التي تجعل اختراقه ممكناً بأقل كلفة ممكنة. وعليه، فإنّ مسألة التعاون الأمني مع أوكرانيا لا ينبغي أن تُترك لاعتبارات تقنية أو اتصالات ظرفية، بل تتطلب نقاشاً على مستوى الدولة، حتى لا يُزَجّ لبنان، من حيث لا يدري، في صراعات لا طاقة له على تحمّل تبعاتها.
فالمجتمع الدولي يعرف جيداً كيف يستثمر في الفوضى اللبنانية، لكن الخطر هذه المرة أن يأتي الاستثمار من بوابة الاستخبارات، حيث لا صوت يعلو فوق صوت المصالح، ولا أحد يضمن أن تبقى تلك المصالح بعيدة عن العبث بأمن البلاد واستقراره.