رضوان السيد استنتج من مقدمة العميم: «أن دَن وصل إلى الولايات المتحدة وقت وصول سيد قطب إليها» رغم أن العميم ذكر بوضوح «ولا نعلم أيهما سبق الآخر في الوصول إلى أميركا في سنة 1948 بسبب أنه لا تتوفر معلومة عن اليوم والشهر الذي وصل فيه هيوارث-دن إلى واشنطن. فلو كانت هذه المعلومة متوفرة لعرفنا أيهما سبق الآخر»، كما ذكر أن معلومة وصولهما في نفس الوقت - التي ذكرها على لسان علي العميم - كان دليلا استخدمه العميم ليثبت أن «هيوارث دَن هو الذي دبر لسيد قطب المنحة أو الرحلة إلى الولايات المتحدة للاطلاع على التجربة الأميركية في الحرية والديمقراطية».
الجزئية الثانية أوحى لها العميم عندما قال: «إنه ليس من قبيل الصدفة أن يكون هيوارث-دن وسيد قطب في أميركا في الفترة نفسها» كما أشار لها في مواضع ومقالات أخرى، لكن الجزئية الأولى كانت من توهمات رضوان.
جيمس هيوارث دن غادر إنجلترا يوم ١٣ مارس ١٩٤٨م، ووصل إلى نيويورك يوم ١٨ مارس ١٩٤٨م، وبدأ عمله في معهد دراسات الشرق الأوسط يوم ١٧ أبريل ١٩٤٨م في واشنطن دي سي.
أما سيد قطب فقد وصل إلى نيويورك من الإسكندرية في ٣ نوفمبر ١٩٤٨م، وأقام في نيويورك أولًا، ثم انتقل في بدايات ١٩٤٩م إلى واشنطن حيث درس في كلية ويلسون للمعلمين (وفي هذه الفترة التقى دن) حتى صيف ١٩٤٩م حين انتقل إلى غريلي في كولورادو ولستة أشهر، ثم إلى كاليفورنيا (سان فرانسيسكو ثم بالو آلتو ثم سان دييغو)، وعاد إلى مصر في أغسطس ١٩٥٠م.
لا يتضح لي متى غادر جيمس هيوارث دن أمريكا لآخر مرة، وقد وقفت على وثيقة تضم قائمة الركاب المغادرين الأجانب الصادرة عن دائرة الهجرة والتجنيس والتي سجلت بيانات المسافرين على متن السفينة «كوين إليزابيث» التي أبحرت من نيويورك في ٦ أبريل ١٩٥١م متجهة إلى شيربورغ، فرنسا، حيث من المقرر أن تصل في ١١ أبريل ١٩٥١م.
وثيقة المسافرين ضمت (على الترتيب) ابنته جنان-ملاك هيوارث دن، وفاطمة لطفي هيوارث دن، وابنه شريف ج. هيوارث دن (جاء اسم ابنه في هذه الوثيفة «شريف» (Sherif)، على خلاف كل الوثائق التي اطلعت عليها والتي أشارت له بـ«جيمس»)، وأخيرا جيمس هيوارث دن.
وثيقة بيانات المسافرين الأجانب على متن السفينة «كوين إليزابيث» المشار لها
دن - كما أشرت - بدأ عمله في معهد دراسات الشرق الأوسط يوم ١٧ أبريل ١٩٤٨م. وسافر من نيويورك بالباخرة يوم ٦ أبريل ١٩٥١م مع زوجته وأبنائه، إلى شيربورغ، فرنسا، وقد تكون هذه أحد آخر زيارتين له، وقد تكون الأخيرة. فهو زار مصر في ١٩٥٢م ونشر فيها أكثر من عشر دراسات، وأرجح أنه لم يعد إلى أمريكا بعد ذلك.
هذه الدراسات التي نشرها دن في القاهرة هي جزء كبير من أعماله في واشنطن، وقد عرف عن نفسه فيها بأنه محاضر سابق في جامعة لندن، بينما لم يشر إلى أن عمله في كلية الدراسات العالمية المتقدمة أو في جامعة جورجتاون أو في منظمة الأغذية والزراعة «فاو» التابعة للأمم المتحدة أنه عمل سابق. وقد تم ترحيله من مصر عام ١٩٥٤م (بعد أقل من عامين من ثورة الضباط الأحرار) كما أشار خبر هروب زوجته الذي ناقشته في مقالة سابقة.
أول تقرير سلمه دن للاستخبارات حسبما اطلعت كان في أواخر ١٩٣٩م وأوائل ١٩٤٠م، ولم أقف على تقرير استخباري كتبه دن قبل ذهابه إلى مصر عام ١٩٣٩م مع بداية الحرب العالمية الثانية. ويتضح من حديث ستيفاني ويتشارت أن تقاريره قبل ذلك كانت لوزارة الإعلام فقط. أما آخر تقرير اطلعت عليه فكان رسالة سلمها لمكتب الخارجية في ١ مايو ١٩٥٤م (عنوانها: UKNA FO 371/108327, JE 1018/49, Letter, James Heyworth-Dunne to Sir Roger Allen (FO), 1 May 1954) موجهة إلى السير «روجر ألين» والذي كان نائب المفوض السامي البريطاني في ألمانيا الغربية عام ١٩٥٤م. هذا التقرير ذكر دن فيه لروجر أنه في عام ١٩٣٦م دفع النازيون أكثر من ٥ آلاف جنيه إسترليني للإخوان المسلمين، وكان المفتي الحسيني وسيطًا بين حسن البنا وبرلين.
أول تقرير كتبه للاستخبارات والذي جاء بعنوان: «تقرير عن التوجهات السياسية في مصر بناءً على ملاحظات جُمعت خلال الفترة من ٢٧ ديسمبر ١٩٣٩م إلى ٣ فبراير ١٩٤٠م» هو ما شجع العميد كلايتون للاستفادة من خبراته، وبدايته في العمل تحت إشراف كلايتون كانت في مايو ١٩٤٠م. هذا التقرير هو مرجع أولي لدراسة الإخوان وهو أول عمل يخصه بهم، فيشير إلى بداية اهتمامه الخاص بالإخوان المسلمين. كما أنه أحد التقارير العديدة التي بنى عليها «الاتجاهات».
عمَلُ دن مع كلايتون انقسم إلى قسمين. الأول كان دعم أعمال الدعاية (وهنا كان بظني تحت إشراف مونتكتن) والثاني كان دعم أعمال مكتب الحرب التابع للاستخبارات العسكرية مع العميد كلايتون. استمرت تقاريره عن أعمال الدعاية حتى نهاية ١٩٤١م وتقاريره عن الإخوان والجمعيات الأهلية حتى نهاية ١٩٤٣م, أي مع نهاية مهمة كلايتون كعميد في الاستخبارات العسكرية في القاهرة وانتقاله للعمل كمستشار الشؤون العربية لوزير الدولة حتى عام ١٩٤٥م.
جيمس هيوارث دن أهدى كتابه «الاتجاهات» إلى كلايتون ومونتكتن. هذا الإهداء وصفه رضوان السيد بأنه «طريف وموحٍ» لأن الشخصين المهدى إليهما، السير مونكتون والسير كلايتون، كانا رؤساء دن في المخابرات البريطانية.
وقد وجده رضوان بأنه طريف وموحي لأنه يوحي إلى أن الكتاب أقرب إلى تقرير استخباراتي مغلف بغطاء أكاديمي منه إلى عمل علمي مستقل، وطريف لأن دن كأنما يبعث إلى كلايتون ومونتكتن تحية مهنية مستترة.
والواقع أن الإهداء لم يكن مجرد تحية مستترة كما فهم رضوان، بل كان تعبيرًا عن الامتنان لمن مكّن دن من الصعود داخل الجهاز الاستخباري البريطاني. فمونكتن وكلايتون لم يكونا مجرد رؤساء، بل كانا الداعمين الأساسيين له، والمنفذين لكثير من اقتراحاته وتوصياته واستراتيجياته.
هذا التمكين الذي وجده دن من كلايتون ومونكتن أقلق السفير البريطاني في مصر، السير مايلز لامبسون (مايلز لامبسون كان دبلوماسيًا بريطانيًا بارزًا وإداريًا استعماريًا، لعب دورًا رئيسيًا في صياغة السياسة البريطانية في مصر والسودان خلال النصف الأول من القرن العشرين. شغل منصب السفير البريطاني في مصر والمندوب السامي في السودان من ١٩٣٤م إلى ١٩٤٦م)، وجعله يتوجس من النفوذ الذي بات يتمتع به دن بفضل دعمهما، وضغط على وزير الدولة البريطاني في الشرق الأوسط أوليفر ليتلتون، لإقالته ووصفه أنه «أصبح له نفوذ غريب على جيشنا، خاصة على العميد كلايتون، الذي كان ينبغي أن يكون أكثر وعيًا بذلك»، وأن: «هذا الرجل البائس، هيوارث دن (...)، الذي يستخدمه جيشنا ونتائجه فادحة». وكتب: «لقد حذّرت الجنرال ويفل شخصيًا من أنه لا ينبغي أن يأخذ ما يقوله دن على أنه موثوق بالضرورة».
كما يشار في أرشيف لامبسون إلى أن هيوارث دن كان يعمل تحت قيادة العميد إيلتيد كلايتون، وأن كلايتون كان نائب رئيس مركز الاستخبارات العسكرية في الشرق الأوسط. بالإضافة لذلك، يشار أن دن تلقى دعمًا مباشرًا من العقيد رايموند مونسل (رئيس الأمن الاستخباراتي في الشرق الأوسط، الفرع الإقليمي للــ«MI5»).
هذا التمكين والتقدير الذي وجده دن عند كلايتون ومونكتن هو السبب الذي لأجله اختصهما بالإهداء الذي كله تقدير وتأكيد فضل وامتنان.
دن كان بريطانيّا مخلصًا قبل أن يكون مسلمًا مخلصًا، وكان لا يحب الإخوان المسلمين (ولا فكرة الإسلام السياسي)، وكان يستنكر تفسيرهم للدين الذي وجده مختلفًا عن التدين المصري الذي عرفه منذ عشرينيات القرن العشرين. أثناء إقامته في واشنطن، نشر دن مقالة في ٢ يناير ١٩٤٩م في صحيفة الواشنطن بوست، بعنوان «الإخوان الخبيثون يضربون مرة أخرى» ووصفهم بأنهم متعصبون ورجعيون ومعادون للغرب. ووصف المودودي في كتاب «ميلاد باكستان: دولة مسلمة جديدة» والذي دفعه للنشر بعد ذلك بثلاث سنين على أنه: «معروف بأفكاره المتطرفة».
فما هي علاقة دن بسيد قطب زعيم إحياء الإخوان المسلمين بعد البنا، وماذا جرى بينهما في واشنطن؟
عندما كان سيد قطب في واشنطن، والتي وصل لها في بداية عام ١٩٤٩م، أجرى عملية استئصال اللوزتين في مستشفى جامعة جورج واشنطن، حيث يقول أنه شعر بإهانة عميقة من أحاديث الممرضات الأمريكيات ومظهرهن، وخلال فترة نقاهته في المستشفى علم باغتيال حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين، في القاهرة يوم ١٢ فبراير ١٩٤٩م. ووفقًا لرواية قطب، فقد فرح الأطباء وقال أحدهم: «اليوم قُتِل عدو المسيحية في الشرق. اليوم تم اغتيال حسن البنا...» والذي يعرف أمريكا سيضحك كثيرا من سذاجة هذه الرواية، ومن خيالات قطب التي يسوقها كوقائع.
وقد زار سيد قطب في هذه الفترة جيمس هيوارث دن، الذي كان يدرّس في جامعة مجاورة (تبعد الجامعة عن المشفى حوالي نصف ساعة مشيا) للجامعة التي كان يتعالج قطب في مشفاها. ذكر قطب أن «العميل البريطاني دن» ذكر له أن «مصر لن تتقدم إذا وصل الإخوان المسلمون إلى السلطة» وأن «الإخوان المسلمين هم الحركة الوحيدة التي تشكل حاجزًا أمام الحضارة الغربية في الشرق».
يذكر أيضا أن دن عرض عليه مبلغ عشرة آلاف دولار كأجر لحقوق ترجمة كتابه الجديد إلى الإنجليزية، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لكتاب غير معروف نسبيًا. رفض سيد قطب عرض دن (لاحقا: تولى المجلس الأمريكي للجمعيات العلمية ترجمة كتاب قطب إلى الإنجليزية مجانا ضمن برنامج أطلقه عام ١٩٤٨م لتعريف القارئ الأمريكي بالفكر الحديث في العالم الشرقي. أُسندت الترجمة إلى القس جون بي. هاردي، المتخصص في اللغات السامية بمدرسة أتلانتيك اللاهوتية في نوفا سكوشيا، وبدأ العمل على المشروع بين عامي ١٩٥٠م و١٩٥١م.)، وتكهّن بأن جيمس هيوارث دَن كان يحاول تجنيده لصالح وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، ويقول سيد قطب أنه قرر الانضمام إلى الإخوان حتى قبل أن يغادر المنزل.
تهكنات وأوهام قطب كثيرة. ودائما ما تتحول عند حوارييه ومريديه إلى حقائق.
لم أقف على ما يؤيد تكهنات قطب في أن دن كان يعمل أو يتعاون مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والوثيقة الوحيدة التي وقفت عليها وذكر فيها اسمه كانت في ٩ مارس ١٩٥٦م حينما استشهد تقرير رفعت عنه السرية في ٣٠ يوليو ١٩٩٨م لوكالة الاستخبارات المركزية (CIA) بعنوان «دور مصر في العالم الإسلامي» بحديث لدن في كتابه «الاتجاهات» وأدرجه كمصدر. هذا هو الاستشهاد: « «لم يكن هناك شيخٌ واحدٌ للأزهر في الأزمنة الحديثة يتمتع بالاستقلال الكافي لفرض شخصيته على الفكر الإسلامي المعاصر»، وفقًا لما ذكره هيوارث دن في كتابه «الاتجاهات الدينية والسياسية في مصر الحديثة» ». وتاريخ هذا الاستشهاد بالكتاب في هذا التقرير كان بعد مغادرة دن الولايات المتحدة الأمريكية، ومضمونه لا يشير إلى علاقة بين دن والـــ«سي آي أيه».
فهل رواية الــ«عشر آلاف دولار» هي من أوهام سيد قطب التي تولدت من قلقه المفرط من المؤامرات وشعوره بالاضطهاد–واللذان استحوذا عليه أثناء رحلته لأمريكا؟ لا أستبعد، خصوصا وأن هذه الرواية هي من الروايات التي تشرع موقفه ومعتقداته، وأن تلفيق هذه الروايات عادة عنده (تحدث عن حالات كثيرة منها علي العميم في مقالاته، ويكفيك النظر في روايته التي أشرت لها عن احتفال الممرضات في مستشفى عالمي في واشنطن باغتيال البنا).
إن صحت رواية قطب فهي قد تشير إلى أن دن كان يتصرف حتى وهو في واشنطن بالتنسيق مع المسؤولين الغربيين، والأقرب أنها كانت بالتنسيق مع الاستخبارات البريطانية لا الأمريكية كما ذكر سيد، خصوصا وأنه علاقته مع الاستخبارات البريطانية استمرت حتى بعد عودته إلى لندن قبل ١٩٥٤م.
رغم أني لا أجد دليلا على النتيجة التي ذهب بها البحاثة العميم في أن هيوارث دن هو من دبر رحلة قطب إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وأجد أن فيه قراءة أكثر من اللازم لما بين السطور، فإنني لا أستبعد أنهما يعرفان بعضهما جيدا جدا قبل سفرهما لأمريكا، وفي فترة مبكرة لدن قبل ارتباطه بالاستخبارات البريطانية.
عدَّ هيوارث دن - في تقرير سلمه دن عام ١٩٤٠م - الإخوان المسلمين قوة يجب مراقبتها عن كثب. وادعى لاحقا، عقب مفاوضات البريطانيين مع الإخوان (والتي شارك فيها دن) أن ممثلي الإخوان بمن فيهم أحمد السكري، طلبوا ٤٠ ألف دولار وسيارة. هذا الطلب اعتبره دن مجرد خدعة تكتيكية منهم، وأن الدعاية المعادية للبريطانيين التي غذّت الجماعة لمدة اثني عشر عامًا جعلت من المستحيل عمليًا إقناعهم بالتعاون.
وفقًا لشهادة الصحفي الأمريكي جون روي كارلسون، فإن هيوارث دن لعب دورًا رئيسيًا في التفاوض مع الإخوان المسلمين. في عام ١٩٤٠م، رتّب لقاءً بين العميد كلايتون وقيادة الإخوان في مقرهم في ميدان حلمية الجديدة بالقاهرة، وفي هذا اللقاء أخبر كلايتون الإخوان بأن بريطانيا تفضل أن يكون لها أصدقاء بين المسلمين بدلًا من أعداء، وبدأ دن وزميله الميجور جودوين بالتقرب من قادة الجماعة.
وفقًا لرواية أحمد السكري، فإن المفاوضات بلغت ذروتها في نوفمبر ١٩٤٠م، عندما زار هيوارث دن السكري شخصيًا وعرض عليه مبلغ ٢٠ ألف جنيه مصري لدعم أنشطة الإخوان مقابل الترويج لدعاية مؤيدة للبريطانيين. قال السكري إنه رفض العرض، لكن حسن البنا قبل لاحقًا ١٠ آلاف جنيه من البريطانيين.
مشاركة دن بالفاوضات تؤكدها مذكرات السفير لامبسون، كما تؤكد مشاركته في المفاوضات مع أحمد حسين من حزب مصر الفتاة، والتي أثارت استياء لامبسون. دن لم يذكر أي من هذه التفاصيل في سيرته الذاتية.
استقيت هذه التفاصيل من بعض الأراشيف الشخصية والمذكرات والوثائق.
وقد اكتفى دن بالإشارة في سيرته الذاتية إلى أنه بين ١٩٤٠م و١٩٤٣م أدار مركز معلومات ودعاية في الشرق الأوسط، وامتلك مطبعة خاصة نشر فيها العديد من الدوريات والمنشورات.
أختم هذه السلسلة بالمقالة القادمة، والتي أشارك فيها شذرات شعرية اخترتها من أرشيف جيمس هيوارث دن.