هل تمثل المساعدات الإنسانية الإماراتية لغزة مجرد عمل إغاثي، أم أنها تعكس استراتيجية جيوسياسية متكاملة تتجاوز البعد الإنساني لترسم ملامح دور إقليمي فاعل؟ تكشف القراءة المتأنية لتصريحات الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان، نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الإماراتي، في مقابلته مع قناة "فوكس نيوز" الأمريكية التي أجريت بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب التاريخية للإمارات والمنطقة قبل أيام، رؤية استراتيجية شاملة تعكس السياسة الرسمية لدولة الإمارات العربية المتحدة. هذه المقابلة، التي تزامنت مع زيارة تحمل دلالات سياسية واقتصادية عميقة للمنطقة، تمثل إعلاناً واضحاً عن موقف إماراتي رسمي في لحظة مفصلية من تاريخ المنطقة. وتتجاوز الرؤية المطروحة فيها المنظور التقليدي للعمل الإنساني، لتؤسس لمقاربة دبلوماسية إنسانية تجمع بين الاعتبارات الأخلاقية والمصالح الاستراتيجية، وتعبر عن موقف الدولة الرسمي تجاه أزمة غزة والقضية الفلسطينية.
في كشف واضح للجميع، قدمت الإمارات أكثر من 42 بالمئة من المساعدات الدولية الإنسانية لغزة خلال العامين الماضيين. هذا الرقم المذهل يثير سؤالاً محورياً: ما الدافع الحقيقي وراء هذا الالتزام الإماراتي الاستثنائي تجاه القضية الفلسطينية عموماً وأزمة غزة خصوصاً؟
تجسدت المساعدات الإماراتية لغزة في مبادرة "الفارس الشهم 3" التي تمثل نموذجاً فريداً للعمل الإنساني المنظم. فمنذ اندلاع الأزمة، أطلقت الإمارات جسراً جوياً وبحرياً ضخماً لنقل آلاف الأطنان من المواد الغذائية والطبية والإغاثية إلى القطاع المحاصر. هذه العملية اللوجستية المعقدة تعكس قدرة استثنائية على تجاوز العقبات الجيوسياسية والأمنية التي تحول دون وصول المساعدات إلى المحتاجين في ظروف الصراع.
تتميز المساعدات الإماراتية بتنوعها النوعي الذي يلبي احتياجات السكان المتضررين بشكل شامل. فهي لا تقتصر على الغذاء والدواء فحسب، بل تمتد لتشمل مستلزمات الإيواء والمياه النظيفة والوقود اللازم لتشغيل المستشفيات ومحطات تحلية المياه. هذا التنوع يعكس فهماً عميقاً للاحتياجات الإنسانية المركبة في مناطق الصراع، ويتجاوز النمط التقليدي للمساعدات الذي يركز على الجوانب الغذائية فقط.
واقعياً، تنطلق المقاربة الإماراتية من فهم عميق للعلاقة بين العمل الإنساني والتأثير السياسي، فالشيخ عبدالله بن زايد ربط بوضوح بين المساعدات واتفاقيات أبراهام، مؤكداً أنه "لولا اتفاقيات إبراهيم بين الإمارات وإسرائيل، والدور العظيم الذي لعبه الرئيس ترامب، ما كنا لنتمكن من إيصال هذه الكمية من المساعدات إلى القطاع".
نتيجة لجهودها الجبارة فلقد أسست الإمارات لنموذج مبتكر في إيصال المساعدات يتجاوز المعوقات التقليدية، وقد نجحت في إنشاء ممر بحري مباشر من قبرص إلى غزة، وبناء رصيف عائم مؤقت على ساحل القطاع، مما سمح بتدفق المساعدات بكميات كبيرة تتجاوز ما يمكن إيصاله عبر المعابر البرية المحدودة. هذا الابتكار اللوجستي يعكس قدرة استراتيجية على تجاوز العقبات الميدانية وخلق مسارات جديدة للعمل الإنساني في ظروف بالغة التعقيد.
نستطيع ان نرى انه تكمن براعة الاستراتيجية الإماراتية في تحويل التحديات إلى فرص، واستثمار العلاقات الدبلوماسية لخدمة الأهداف الإنسانية، وهنا تظهر المفارقة الصارخة: بينما فشلت أطراف عديدة في تقديم مساعدات حقيقية رغم خطابها المتشدد، نجحت الإمارات بنهجها العملي في تحقيق إنجاز إنساني ملموس. وتعتمد السياسة الإماراتية نهجاً متعدد المسارات في التعامل مع الأزمة الفلسطينية. فهي تقدم المساعدات المباشرة على المستوى الإنساني، وتدعو لحلول مستدامة على المستوى السياسي، وتعزز موقعها كوسيط موثوق على المستوى الاستراتيجي.
تمثل المساعدات الإنسانية الإماراتية أداة فعالة من أدوات القوة الناعمة لتعزيز النفوذ الإقليمي والدولي. هذا النهج يعكس تطوراً في الفكر الاستراتيجي الإماراتي الذي يدرك أن القوة الحقيقية تشمل التأثير الإنساني والثقافي، وليس فقط العسكري والاقتصادي.
لقد قدم الشيخ عبدالله بن زايد موقفاً واضحاً من حماس، مؤكداً على ضرورة "إطلاق الرهائن أولاً، والتهدئة في غزة، وإيجاد سلطة لا تكون ضمنها حماس". هذا الموقف الصريح يعكس رؤية استراتيجية عميقة للوضع الفلسطيني الداخلي. وينبع موقف الإمارات من حماس من تقييم واقعي لتأثير سيطرة الحركة على غزة، فالإمارات ترى في نموذج حماس تهديداً حقيقياً للاستقرار الإقليمي ولمشروع السلام الشامل في المنطقة. ومن حيث المبدأ تميز الإمارات بوضوح بين دعم القضية الفلسطينية من جهة، ودعم حركة حماس من جهة أخرى. هذا التمييز الدقيق يعكس فهماً عميقاً لتعقيدات المشهد الفلسطيني، ويتجاوز النظرة السطحية التي تختزل القضية في موقف واحد.
بلا شك يندرج موقف الإمارات من حماس ضمن رؤية شاملة للأمن الإقليمي تقوم على مواجهة التطرف، وهنا يبرز التحدي الرئيسي: كيف يمكن دعم الشعب الفلسطيني إنسانياً دون تقوية سلطة حماس سياسياً؟ وهو ما نجحت الإمارات في تحقيقه عبر المساعدة المباشرة للمدنيين.
وتؤكد التجارب السابقة أن حل الأزمات المعقدة يتطلب توازناً بين الجوانب الإنسانية والسياسية والأمنية. وهذا بالضبط ما تسعى إليه الإمارات من خلال رؤيتها لمستقبل غزة القائمة على ثلاثة محاور: إطلاق الرهائن، وتحقيق التهدئة، وإيجاد سلطة فلسطينية فاعلة. تدرك الإمارات بوضوح أن حل أزمة غزة لا يتحقق بالمساعدات الإنسانية وحدها، بل يتطلب معالجة جذور المشكلة السياسية والأمنية. لذلك، فإن موقفها من حماس مرتبط برؤيتها الشاملة لمستقبل المنطقة.
بكل وضوح وتجلي تجمع المقاربة الإماراتية بين المبادئ والمصالح، وتوازن بذكاء بين الالتزام الإنساني تجاه الفلسطينيين والحفاظ على الأمن الإقليمي. هذا التوازن الدقيق هو ما يميز الدبلوماسية الإماراتية في التعامل مع أزمة غزة. حيث تقدم الإمارات نموذجاً جديداً للتعامل مع القضية الفلسطينية، يتجاوز خياري "المقاومة المسلحة" أو "التطبيع المجاني"، ليؤسس لنهج "السلام الفاعل" الذي يحقق نتائج ملموسة للشعب الفلسطيني.
بلا شك تمثل المقاربة الإماراتية تحولاً جذرياً في الدبلوماسية العربية. فهي تتجاوز الخطاب العاطفي التقليدي، لتؤسس لدبلوماسية عملية تركز على النتائج الملموسة وليس الشعارات الرنانة. وهو امر واقعي ان تسعى الإمارات من خلال سياستها تجاه غزة لتعزيز موقعها كقوة إقليمية مؤثرة قادرة على إدارة الأزمات المعقدة، ودورها المتنامي يجمع بين المساعدات الإنسانية والدبلوماسية الذكية في مزيج استراتيجي فعال.
تمثل المقاربة الإماراتية لأزمة غزة، كما عبر عنها الشيخ عبدالله بن زايد، نموذجاً متقدماً للدبلوماسية الإنسانية التي تجمع بين الاعتبارات الأخلاقية والمصالح الاستراتيجية. هذا النموذج، رغم التحديات، يقدم طريقاً واعداً للخروج من دوامة الصراع نحو آفاق السلام والاستقرار.