الأساس في المفاوضات الأميركية الإيرانية أنها مفاوضات بالوكالة عن إسرائيل، وأنها تتعلق بالبعد النووي لما له من تحول في بنية القوة في المنطقة. وهذه المفاوضات تتوافق مع الهدف الثابت للولايات المتحدة في الحفاظ على أمن وبقاء إسرائيل، وهذا الهدف يرتبط بهدف آخر، وهو الحفاظ على قوة إسرائيل كقوة أحادية في المنطقة، وأساسها عدم السماح لأي قوة في المنطقة أن تمتلك القوة النووية، ورأينا ذلك في ضرب إسرائيل للمفاعلات النووية العراقية.
وعقدة هذه المفاوضات تتمثل أيضًا في الرغبة الإيرانية في الحفاظ على توسيع مجال مصالحها الحيوية ومناطق نفوذها في المنطقة، وهي المنطقة التي تشكل قلب المصلحة القومية لإسرائيل، وتشكل أيضًا منطقة مصالح استراتيجية للولايات المتحدة، وفي قلبها تقع دول الخليج العربي لما لها من أهمية استراتيجية وجيوسياسية واقتصادية كأحد أهم مرتكزات القوة الأحادية الكونية للولايات المتحدة، ومن هذه المقاربة لا يُسمح لإيران أن تتحول لقوة نووية تتحكم في المنطقة.
وما يميز هذه المفاوضات السلوك الإيراني التفاوضي، فبالرغم من رغبة إيران في أن تصبح قوة نووية، إلا أن أولويتها الحفاظ على نظام حكمها ومناطق نفوذها في المنطقة التي تعتبرها أيضًا منطقة نفوذ ومصالح أولى، ورغبتها في التحول لدولة قوة إقليمية، وهذا ما يشكل تهديدًا ليس لدول المنطقة بل لإسرائيل كدولة قوة أحادية في المنطقة بدعم ومساندة أميركية، وهذا أيضًا ما يفسر لنا رغبة الولايات المتحدة في اكتمال خارطة السلام مع الدول العربية مع الحفاظ على قوة إسرائيل.
والسلوك الإيراني أشبه بسلوك البازار الشعبي، وهذا ينطبق حتى على الولايات المتحدة، وهو عبارة عن سوق شعبية تتم فيها عمليات مقايضة ومساومة وتُمارَس فيها كل التكتيكات التفاوضية من تنازل مرن وتكيّف واستجابة، وعدم الذهاب لخيار الحرب التي تعني خسارة كل شيء. هذا السلوك يقف اليوم وراء استمرار المفاوضات وزيادة درجة التفاؤل بالوصول لاتفاق يحقق أهداف مقاربة سوق البازار التي يخرج منها كل طرف محققًا بعضًا من أهدافه، وأنه لم يخرج مهزومًا.
الأمر الآخر الذي يفسر لنا هذه المفاوضات أنها لم تأتِ بعد حرب حقق فيها الطرف الرئيس، وهو الولايات المتحدة، نصرًا كاملاً وهزيمة كاملة لإيران، ناهيكم أن خيار الحرب مستبعد لامتداد تداعياتها لدول المنطقة ولإسرائيل ذاتها، وهذا من شأنه أن يتبنى الطرفان قدرًا أكبر من التنازل المرن المتبادل، والأولوية فيها ألا تصبح إيران قوة نووية، وهو مطلب عام لكل الأطراف.
هذا الشكل من المفاوضات قد يكون أكثر واقعية وقبولًا وتحقيقًا لأهدافه، ولذلك ستكون هذه المفاوضات امتدادًا للمفاوضات السابقة، وما يُعرف بالاتفاق خمسة زائد واحد، وهو الاتفاق الذي قبلت به الولايات المتحدة مع إدارة أوباما، وانسحبت منه إدارة ترامب في ولايته الأولى، والتي أدركت أن هذا الانسحاب منح إيران هامشًا واسعًا لمزيد من التخصيب والاقتراب أكثر من القوة النووية وتوسيع مناطق نفوذها.
وهدف إدارة ترامب اليوم تفكيك القدرات النووية وتقليص مناطق النفوذ، وهو ما تحقق اليوم في سوريا ولبنان. والجديد في هذه المفاوضات تغير في بيئة التفاوض الشاملة: تراجع في النفوذ الإيراني في المنطقة، وحرب غزة، وتراجع في قوة حماس، وتراجع واضح في قوة حزب الله، وسقوط نظام الأسد في سوريا، وما ترتب عليه من تقليص وانحسار لتواجد إيران في سوريا.
ونظام سياسي جديد في سوريا أكثر واقعية واستجابة للتطلعات السياسية الأميركية والإسرائيلية، كما رأينا في مصافحة الرئيس ترامب للرئيس السوري أحمد الشرف في الرياض، وتحولات في دور دول المنطقة التي لا ترغب في الحرب خيارًا، وأكثر استعدادًا للسلام. والتغير الأكبر بتولي وعودة الرئيس ترامب وتلويحه المباشر بالخيار العسكري لكبح جماح القدرات النووية. ولا شك أن التحول في السياسة الإيرانية وتولي رئاسة وحكم أكثر استجابة وتكيفًا وحرصًا في الحفاظ على النظام السياسي الإيراني، وهذا لن يتحقق بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران، ولا بالخيار العسكري الذي تدرك إيران أنها ستكون الخاسر الأكبر فيه، وأن الدول الشريكة لها كالصين وروسيا لن تدخل في حرب كونية.
لهذه الأسباب يبقى خيار التفاوض الأكثر قبولًا، وهو ما يفسر لنا استمرارها حتى الآن، ولا شك أن استمرار المفاوضات مؤشر إيجابي على النجاح، ولا يمكن تجاهل الدور الذي تقوم به عُمان تعبيرًا وتجسيدًا عن دور دول مجلس التعاون الأكثر حرصًا على نجاح المفاوضات كبديل لخيار الحرب التي تتهددها جميعًا. كل هذه عوامل تفسر لنا إمكانية التوصل لاتفاق جديد ستُعاد معه رسم الخارطة السياسية للمنطقة.
فهذه المفاوضات ليست مجرد مفاوضات ثنائية بين دولة قوة أحادية تريد أن تضمن سيطرتها على أهم المناطق الاستراتيجية في العالم، ودولة قوة إقليمية تسعى لفرض هيمنتها وتوسيع نفوذها في نفس المنطقة، بل هي مفاوضات تداعياتها إقليمية وكونية، ومن نوع مفاوضات الصفقة الشاملة، وستكون لها تداعيات على المستوى الإقليمي والدولي، وستترتب عليها أيضًا إعادة ترتيب الأدوار السياسية لدول المنطقة، وستفتح الباب أمام بنية قوة جديدة وتعيد رسم الخارطة السياسية على أساسها، وسيكون لها بُعد آخر على مستوى قضايا وعلاقات المنطقة، ولعل من أبرز القضايا قضية فلسطين والصراع على المستوى الفلسطيني الإسرائيلي وتراجع الخيارات العسكرية.