لا شك أنّ محاولات التنبؤ بالمستقبل انطلاقاً من اللحظة الراهنة قد يفضي إلى نتائج غير دقيقة في كثير من الأحيان، إلا أنّ استخدام التحليل المستند على بعض المقاربات التي تأخذ بعين الاعتبار أبعاد اللحظة الراهنة وفق سياقها الزماني، وتطورات الأحداث اليومية، سيعطي إمكانية تلمّس المآلات المرتبطة بالمقدمات، وإمكانية التنبؤ بمسارات أي حدث مستقبلي.
ما يدعو إلى هذه المقدمة، ما تكشفه سياسة ترامب من مؤشرات تدل على أنّها لم تكن مجرّد انفعال شعبوي عابر، أو انكفاء انعزالي تقليدي، بل تُمثّل تحوّلاً عميقاً في بنية التفكير الإستراتيجي الأميركي تجاه العالم، والتي يُفترض قراءتها ضمن سياق العقائد السياسية التي شكّلت في مراحل مختلفة ملامح الدور الأميركي عالمياً، كعقيدة مونرو وعقيدة ترومان وعقيدة ريغان.
تُعرّف العقيدة السياسية بشكلٍ عام بأنّها: مجموع الإجراءات التي يتّخذها الرئيس، والتي تستند إلى مجموعة من الافتراضات حول كيفية عمل العالم، والتوقّعات، والعلاقات بين الدول. ووفقاً لـ تود بيلت، أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن، فإنّ العقيدة السياسية تُمثّل "استراتيجية كبرى تحدد نوع العلاقات الدولية التي يتبناها الرئيس"، ومن ذلك على سبيل المثال عقيدة مونرو، خامس الرؤساء الأميركيين، والتي عبّر عنها في كانون الأول (ديسمبر) 1823 أثناء خطاب حالة الاتحاد أمام الكونغرس، قامت على معارضة الاستعمار الأوروبي في نصف الكرة الشمالي، واعتباره عملاً عدائياً، وأيضاً عقيدة ترومان، الرئيس الثالث والثلاثون للولايات المتحدة، والتي أعلن عنها في 12 آذار (مارس) 1947، كجزء أساسي من الحرب الباردة، قامت على سياسة احتواء المد الشيوعي من خلال تقديم المساعدات المالية والعسكرية لبعض الدول منعاً لوقوعها تحت هيمنة الشيوعية والاتحاد السوفييتي آنذاك، وكذلك عقيدة ريغان، الرئيس الأربعين للولايات المتحدة، والتي حددها في خطابه في شباط (فبراير) 1985، بقوله: "يجب أن نقف إلى جميع حلفائنا الديمقراطيين، ويجب ألا نكسر الإيمان بأولئك الذين يخاطرون بحياتهم في كل قارة من أفغانستان إلى نيكاراغوا، لمواجهة العدوان المدعوم من الاتحاد السوفييتي".
انطلاقاً من هذا الإطار المفاهيمي، يُمكن النظر إلى عقيدة ترامب السياسية، بالرغم من أنّها لا تملك حتى الآن نصّاً مؤسساً أو وثيقة مفاهيمية، ولا تستند إلى خطاب نظري مُنظّم، كما هو حال العقائد الأميركية السابقة، بوصفها تطوّراً نوعيّاً في مسار العقائد الأميركية، لكن بملامح مغايرة لما سبقها، لا سيّما أنّها تقف على النقيض من النموذج الليبرالي المؤسساتي الذي ميّز السياسة الأميركية لعقود في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، سواء في عهد بوش الأب أو كلينتون أو حتى أوباما وبايدن، وهذا ما يؤكّده تحليل خطابات ترامب وأوامره التنفيذية منذ اليوم الأول في ولايته الثانية، فأكثر ما يعمل عليه ترامب هو تغيير شكل ومحتوى الإطار الفكري والرؤية السياسية التي اعتمد عليها زعماء الحزب الجمهوري على مدار التاريخ، وكان آخرها الرؤية التي وضعها وعمل عليها الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وسار عليها من بعده كل الزعماء الجمهوريين، حتى وصول ترامب للحكم في ولايته الأولى في 20 كانون الثاني (يناير) 2017.
وبالتالي، من يرجع إلى شعارات ترامب الانتخابية، منذ حملته الانتخابية الأولى عام 2016، وإلى تصريحاته وإجراءاته خلال سنوات ولايته الأولى، وصولاً إلى وقتنا الراهن في ولايته الثانية، لا بد وأن يقف عند ملامح عقيدة ترامب المبنية على قاعدة إعادة الاعتبار إلى منطق الدولة القومية الصلبة القائم على فكرة مركزية "أميركا أولاً"، بما يعنيه ذلك من إعادة تعريف المصالح القومية بصورة ضيّقة ومباشرة، بعيداً عن التزامات الحلفاء أو منطق التدخلات "القيمية" في السياسة الخارجية، مُفضّلاً في الوقت ذاته مقاربة ترتكز على أربع ركائز أساسية، وهي: إعادة تعريف التحالفات وفق منطق الربح والخسارة، والانكفاء القومي مقابل الانخراط الأممي، والحسم بدل التفاوض الطويل، والتعامل مع العالم بوصفه "صفقة" تخضع لحسابات الكلفة والعائد، وبذلك تتسم عقيدة ترامب السياسية بمزيج غير تقليدي بين "الميركانتيلية" الحمائية الاقتصادية، والضغط المالي على الحلفاء، والتقليل من أهميّة التحالفات متعددة الأطراف، والسعي إلى صفقات ثنائية مباشرة تحقق أقصى قدر من المكاسب قصيرة الأمد.
وعليه، فإنّ ما اصطلح على تسميته بـ "الترامبية"، التي عرّفها قاموس "كولينز" الإنكليزي بأنّها "السياسات التي ينادي بها دونالد ترامب، وخاصةً تلك المنطوية على رفض المؤسسة السياسية الحالية، والسعي نحو المصالح القومية للولايات المتحدة الأميركية"، لم تعد مجرّد أدوات للتعبئة الشعبوية - بالرغم من أهميتها - بل أصبحت تعكس قناعة راسخة لدى تيار سياسي جديد في الولايات المتحدة، وداخل مؤسساتها، بات يُعرف بـ "اليمين الجديد"، يرى بأنّ النظام الدولي القائم لم يعد يخدم مصالح الولايات المتحدة، وأنّ قواعد العولمة، التي ساهمت أميركا في صياغتها باتت تهدد موقعها السياسي والاقتصادي، وهو ما يجعل من "الترامبية" في وقت الراهن توجهاً بنيوياً آخذاً في الترسّخ، ليس داخل الحزب الجمهوري فحسب، وإنّما داخل المؤسسات الأميركية.
ختاماً، يمكن القول إنّ عقيدة ترامب السياسية، لا تُمثّل انحرافاً عابراً في السياسة الأميركية، بل باتت تعبّر عن تيار صاعد يريد إعادة تعريف دور أميركا في العالم للعقود المقبلة، فترامب وفريقه يعملون حالياً على نقل الحزب الجمهوري من ميراث ريغان إلى المبادئ الترامبية الشعبوية الجديدة، بهدف ترسيخ أفكار ترامب وجعلها الأساس الوحيد لرؤية الحزب الجمهوري والسياسة الأميركية في السنوات والعقود القادمة، لترسيخ عقيدة سياسية على غرار عقيدة مونرو وترومان وريغان، ولعل اختيار ترامب لـ جيمس فانس كنائب له، والذي يؤمن بكامل أفكار ترامب، ويحظى بقبول وحضور كبير بين الجمهوريين، يقول إنّنا قد نكون أمام حقبة قد تطول عنوانها الأساس الترامبية وعقيدة ترامب السياسية.