: آخر تحديث

المخفي والمسكوت عنه في الصراع العربي الإسرائيلي (3/1)

11
8
8

إحدى الركائز الراسخة في العقل الجمعي العربي، والتي يسعى البعض لترسيخها كحقيقة أبدية، هي مقولة: "إسرائيل دولة لا تريد السلام مع الدول العربية". وقد أسهمت الأنظمة العسكرية السلطوية العربية في تغذية هذه المقولة، من خلال استثمارها السياسي في كراهية إسرائيل والتحريض ضدها. تم توظيف هذه الرواية بخطابات مختلفة: ناصرية، قومية، بعثية، يسارية، أو إسلاموية، حتى تحولت إلى ما يشبه "نصًا مقدسًا"، يصعب الاقتراب منه أو مساءلته، بالرغم من التشكيك فيه.

كنت محظوظًا، وأنا "صبي مشاكس"، بأن أطرح أسئلتي الشائكة على جدتي، أم والدتي، والتي كانت أقرب الناس إلى قلبي. ذات مساء، باغتتها بسؤالي: "يا نانا، هو صحيح إن اليهود لا يريدون السلام؟ وإنهم يكرهوننا ولا يطيقوننا؟".

فجاءت إجابتها صادمة ومغيرة لمسار تفكيري:

"يا محمد، اليهود كانوا جيراننا وأنا صغيرة. كانوا نعم الجيرة. لم نرَ منهم إلا كل خير، حتى تم ترحيلهم من مصر. لا تصدق كل ما يُقال في هذا الموضوع".

ثم بدأت تسرد لي مواقف شخصية، لها ولوالدتها وأشقائها، مع جيرانهم اليهود في الإسكندرية. كان وقع كلماتها عليّ كالصاعقة. ومنذ ذلك اليوم، بدأت أتعامل مع الرواية الرسمية على كافة مستوياتها بعقل ناقد، لا يأخذ الأمور كمسلّمات، بل يفحص ويفنّد ويسأل.

في مراحل لاحقة من حياتي، وبالتحديد في أواخر عام 2011، تعرفت على المفكر المصري الكبير والصديق الراحل أمين المهدي، الذي كان له بالغ الأثر في إعادة تشكيل فهمي للصراع العربي الإسرائيلي. فتح لي أبوابًا لفهم أكثر عمقًا، وكشف لي الكثير مما غُيّب عن وعيي، وأعاد ترتيب خرائط هذا الصراع بمنهجية وعقلانية.

وقد يندهش كثير من القراء حين أقول إنَّ إسرائيل، خلافًا للسردية السائدة، لم تكن يومًا ترفض السلام. بل على العكس، قدمت عشرات المبادرات والمقترحات لإنهاء هذا الصراع بشكل عادل، يحقق آمال وطموحات الطرفين: الإسرائيليين والفلسطينيين. لكنَّ جميع هذه الأطروحات اصطدمت، في كل مرة، بجدار الرفض العربي الصلب.

وسأستعرض في ما يلي بعضًا من تلك المبادرات والمشاريع الإسرائيلية التي طُرحت منذ عقود، لتكون مرجعية موثقة، في مواجهة الرواية المختزلة التي تسوّقها الأنظمة التي لا تريد السلام.

سأعود بالزمن إلى الوراء، بدءًا من 8 تموز (يوليو) 1937، عندما نُشر تقرير لجنة بيل، المعروفة رسميًا باسم اللجنة الملكية البريطانية، وهي لجنة تحقيق رفيعة المستوى ترأسها اللورد وليم روبرت بيل، عضو مجلس الملكة الخاص ووزير الدولة السابق لشؤون الهند.

تشكّلت اللجنة عام 1936 إثر اندلاع الثورة العربية، وكان هدفها وضع حل نهائي للصراع "العربي اليهودي". اقترحت اللجنة تقسيم المنطقة إلى ثلاث جهات: منطقة تحت الانتداب البريطاني تشمل القدس وبيت لحم وممرًا إلى ميناء يافا، ودولة يهودية تشمل الجليل وأجزاء من الساحل، ودولة عربية تضم ما تبقى من الأرض وتتحد مع شرق الأردن (تجدر الإشارة إلى أن مساحة الدولة العربية المقترحة كانت نحو 25,000 كم²، بينما لم تتجاوز مساحة الدولة اليهودية 2,500 كم²). قبل اليهود هذه الخطة، مؤكدين رغبتهم في إنهاء الصراع والعيش بسلام.

كتبت غولدا مائير في مذكراتها أنها كانت برفقة ديفيد بن غوريون حين علما بالمقترح، فتوجّها إلى حاييم وايزمان للتشاور، فقال لهما: "الدولة أفضل من لا دولة، والموافقة خير من الرفض، ونأمل أن يرفضها الجانب العربي". وهو ما حدث بالفعل.

في سنوات لاحقة، تورّط الحاج أمين الحسيني، مفتي القدس ورئيس المجلس الإسلامي الأعلى، في ما عُرف بـ"الحل النهائي" النازي لإبادة يهود أوروبا. وصل الحسيني إلى برلين في تشرين الثاني (نوفمبر) 1941، بعد زيارته لموسوليني في إيطاليا. في 28 تشرين الثاني استقبله هتلر في مقر المستشارية، واصفًا إياه بـ"المفتي الأكبر للقدس وأحد أبرز رموز التحرر العربي".

قبل لقائه بهتلر، اجتمع الحسيني بوزير الخارجية النازي يواكيم فون ريبنتروب، ثم زار معسكر أوشفيتز برفقة أدولف أيخمان، حيث شاهد غرف الغاز. وعلّق الحسيني بأن هناك "توافقًا كاملاً في الرؤية"، وأن هتلر قال له: "المشكلة اليهودية يجب أن تُحل خطوة بخطوة". ووعده بأنه، في حال سيطرة ألمانيا على الشرق الأوسط، "سيكون هدفها الوحيد إبادة العنصر اليهودي في المنطقة". وقد رتّب السكرتير اللبناني عثمان كمال الحداد زيارته إلى برلين.

كما تجدر الإشارة إلى وجود أدلة فوتوغرافية توثق زيارة الحسيني لمعسكر تريبين في عام 1942، وهو معسكر تدريب تابع لقوات الأمن الخاصة (SS) بالقرب من برلين. الصور التي ظهرت في مزاد في القدس تُظهر الحسيني برفقة مسؤولين نازيين أثناء تفقدهم للمعسكر.

وكانت فكرة الدولتين، واحدة عربية وأخرى يهودية، مطروحة باستمرار، وهو ما يدل على أنه لم توجد في أي وقت دولة تُدعى فلسطين. كما أن خطة التقسيم الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقرار 181 في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947 نصّت صراحة على إقامة دولتين، عربية ويهودية، دون أن تشير إلى دولة فلسطينية قائمة. فلو كانت موجودة، لذُكرت بالاسم.

خطة بن غوريون للسلام لعام 1946 تضمنت هذه الخطة ثلاث أفكار رئيسية. اقترحت الفكرة الأولى إعلان المنطقة الخاضعة للسيطرة البريطانية على الضفة الشرقية لنهر الأردن - المملكة الأردنية الهاشمية حالياً - منطقة محايدة إلى الأبد. أما الفكرتان الثانية والثالثة، فقد هدفتا إلى إقامة دولتين مستقلتين، وجعل الأماكن المقدسة ملكًا دوليًا، على أن تكون القدس جزءًا من تسوية شاملة تشمل جميع الأماكن المقدسة.

اقتراح حزب العمل لعام 1947: في أواخر نيسان (أبريل) 1947، قدم حزب العمل الإسرائيلي، بصفته حزبًا يهوديًا معارضًا، مقترحًا لحل القضية الفلسطينية. نصّ المقترح على أن الوكالة اليهودية هي الممثل الرسمي للشعب اليهودي، ورأى أن الحل الأمثل هو دولة ثنائية القومية ذات مؤسسات مشتركة للعرب واليهود.

رفض العالم العربي أيضًا قرار التقسيم الصادر في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، وشوّه سمعته باعتباره مؤامرة كبرى ضده من دول العالم، واختار الحرب بدلاً من ذلك. اندلعت هذه الحرب بالفعل في 15 أيار (مايو) 1948، متسببة في هزيمة نكراء لهم. أدت هذه الهزيمة إلى تهجير المواطنين العرب اليهود قسرًا من أوطانهم، واستخدمت أساليب مافيا لإجبارهم على الرحيل. إن وصف هذه المسألة يحتاج إلى مجلدات طويلة، لا إلى بضعة كتب ومقالات فقط. واستمروا في دائرة الرفض وكأنها أصبحت مرضاً مزمناً، فرفضوا مبادرات السلام التي سوف أستكمل استعراضها في المقال القادم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.