لقد كانت محافظة الزلفي على موعدٍ مع التاريخ والعراقة، إذ احتضنت تظاهرةً تراثيةً قلَّ أن يُرى لها نظيرٌ في هذا العصر؛ حيث التأم فيها جمهور غفير، واجتمعت فيها ألوان من الفنون الحِرفية، لا يجمعها إلا ما يربط حاضر الوطن بماضيه العريق.
ولئن كان هذا المهرجان أحد مرامي رؤية المملكة 2030، فإنه كذلك ثمرة من ثمار ما أعلنت عنه الدولة من تخصيص هذا العام تحت عنوان "عام الحرف اليدوية 2025"؛ وما هذه الحفاوة الباذخة، وهذا الإقبال الذي يجلّ عن الوصف، إلا برهان على صدق الانتماء، ورغبة الجماهير في مصافحة التراث لا رؤيته فقط، بل الغوص في أعماقه، واستلهام ما فيه من المعاني النبيلة والدروس البليغة.
ليست الحِرفة عند السعودي المُبدع مجرد وسيلة عيش، ولا هي أداة تكسّب فحسب، ولكن هي هويةٌ متجذرة، وميراثٌ موصول باليد والعين والقلب، تضرب جذورها في أعماق الروح قبل أن تلامس المادة.
وما إعلان هذا العام عامًا للحرف اليدوية إلا إيذانٌ بمرحلة جديدة، تُعيدُ الاعتبار لما طواه الإهمال، وتُحيي ما ظنّ الناس أنه مات. فهو إحياءٌ للمهارة، وصونٌ للكرامة، ودعوةٌ إلى الأصالة في زمن يكاد أن ينسى نفسه.
الزلفي: رائدة المبادرة، وسابقة الفعل:
إنَّ الزلفي لم تكن مجرد محطة في طريق المهرجان، حيث كانت أصل الحكاية، ومبتدأ الفكرة، فكانت السباقة في تنفيذ هذه الرؤية، وفي تحويل المقاصد إلى واقع مشهود.
وقد بان أثر ذلك في حسن التنظيم، وثراء المشاركات، وصدق الحضور، حتى غدت الزلفي نقطة الانطلاق نحو مشروع وطني كبير، ترعاه الدولة، ويؤيده الشعب، وتباركه الذاكرة الجمعية للأمة السعودية.
ومن تمام الفكرة أن يكون لهذا المهرجان ديمومةٌ واستمرارٌ، لا يتوقف عند مناسبة عابرة، وإنما يُؤسس له كيانٌ ثقافي دائم، يُنظّم كل عام، ليكون مَعْلَماً من معالم الوطن، يُحفظ به الحرف، ويُكرّم فيه الحرفيّ، وتُربّى فيه الأجيال على تقدير الجمال المولود من اليد والعقل والوجدان.
من وهج البشت إلى عبير الورد:
ولعل من أجمل ما تفتّق عنه هذا الحدث الكبير، تلك النماذج البديعة التي عُرضت، ومنها:
بشت المعلّمة: الذي تُحيكه أنامل الأحسائيين من الزريّ المذهب والوبر، لا يلبسه إلا الملوك، ولا يُنسج إلا فخرًا.
ورد الطائف: الذي ما زال يُقطَّر كما كان، في ورش تُعيد للروح رائحتها القديمة.
الدلّة والكوستر: حيث تحوّلت أدوات الضيافة إلى رموز تُروى وتُخلَّد.
الروشان والقط العسيري والباب النجدي: كلها شواهد على أن الجمال قد يسكن الخشب، أو يتجلّى في نقش، أو يُطرّز على جدار.
وللحِرفة كرامة يجب أن تُصان:
ولأنَّ الحِرفة ليست عملًا يدويًّا فحسب، ولكن حق ثقافيّ أصيل، فقد بادرت الدولة إلى توقيع مذكرة تفاهم بين "ورث" والهيئة السعودية للملكية الفكرية، صونًا للحقوق، وحمايةً للإبداع، وإيمانًا بأن ما يُنتجه الحرفيّ هو كما تُنتجه قريحة الشاعر أو عبقرية الرسّام.
لقد أثبتت الزلفي أنها تُجيد التأسيس للمستقبل، وأن الحِرفة إذا أُكرمت، أكرمت صاحبها، وإذا أُحييت، أنعشت الوطن بأسره.
وما أشدّ حاجتنا، في عصر السرعة والاستهلاك، إلى لحظة سكونٍ كهذه، نقف فيها أمام مرآة الحِرفة، فنرى فيها وجوه آبائنا، ونرسم بها ملامح أبنائنا.