: آخر تحديث

فوقية الأتراك غير المُبرّرة: حين تتورّم الهوية في الفراغ

12
11
7

ليس من الحكمة أن تُبنى الفوقية على ركام التاريخ، ولا من الإنصاف أن يتضخم الشعور القومي على حساب الآخرين، خصوصاً حين يكون هذا التضخم مبنياً على أساطير مغشوشة أو سرديات أحادية تتجاهل الحقيقة المعقدة للبشر. ومع أن كل أمة تُصاب أحياناً بنوبات من النرجسية الجماعية، فإن ما يُلاحظ مؤخراً في الخطاب التركي (الرسمي والشعبي) يشبه ما يمكن وصفه بـ(الغرور الموروث دون مُنجَز)، أو كما يسميه بعض الفلاسفة: الأنا الجماعية الطافية على سطح ماضٍ منقوص…!

الفوقية التركية ليست مجرد سلوك فردي أو حالات عنصرية متفرقة، بل هي بنية عقلية تعيد إنتاج نفسها عبر التعليم والإعلام والسياسة والخطاب الديني والوطني، وتتمظهر في تعامل كثير من الأتراك مع الشعوب المجاورة أو المهاجرين أو حتى مع الشعوب الإسلامية التي يدّعون الانتماء إليها تاريخياً.

يُعيد الأتراك بشغفٍ مُبطن بالحنين والهيمنة الترويج لصورة الإمبراطورية العثمانية، لا ككيان سياسي ساد في سياق صراعات إمبراطوريات القرن السادس عشر، بل كمشروع (خلافة إلهيّة) تجب استعادته. ومن هنا تبدأ المشكلة: حين تتحول الدولة الحديثة إلى ظل إمبراطوري مأزوم، يُصاب الوعي الجمعي بشيء من الإنكار، وبدل أن يواجه واقعه بصدق، يبدأ في البحث عن تبريرات فوقية تُلغي الآخر، وتُعلي من شأن الذات بآليات نفسية دفاعية مريضة.

فمن أين تأتي هذه الفوقية؟

تاريخياً، لم تكن الدولة العثمانية حضارة متفوقة بالمعنى الشامل، بل كانت دولة عسكرية توسعية نجحت في التمدد السياسي لكنها فشلت في ترسيخ نهضة معرفية أو علمية مقارنةً بما كان يجري في أوروبا أو في الحضارة الإسلامية السابقة في بغداد ودمشق وقرطبة. فبينما كانت أوروبا تنتقل من عصور الظلام إلى الحداثة، كانت الدولة العثمانية تعاني من جمود فكري، ومنع للطباعة، واضطهاد للعلماء، وتبجيل أعمى للسلطة. ورغم ذلك، يتم تقديم هذا التاريخ داخل تركيا وكأنه ذروة المجد الإسلامي والحضاري، ويتم تصدير هذه الصورة إلى العالم الإسلامي تحت شعار (أحفاد العثمانيين).

هنا تبدأ الفوقية، حين يُختزل التاريخ في لحظة هيمنة، وتُنسى لحظات الانحطاط، وتُطمس جرائم الانكشارية، ويتم إقصاء شعوب بأكملها من ذاكرة التاريخ.

العرب في هذا الخطاب هم (من خانوا الخلافة)، والكورد مجرد أدوات تمرد، واليونانيون والبلقان مجرد شعوب متمردة على (العدل العثماني)، والغرب هو العدو الأبدي.

تتجلى هذه الفوقية أيضاً في العلاقة المعاصرة مع العرب. فبدل أن يعترف التركي بأن العالم العربي هو مَن قدّم للعالم الإسلامي الفكر والفلسفة واللغة والتفسير والحديث والمنطق، فإنه يتعامل مع العربي بوصفه (بدائياً) أو (تابعاً). وحتى في الثقافة الشعبية، تتكرر الصورة النمطية للعربي التائه في الرمال، بينما التركي هو (المنقذ) و(السيد)!

هذه الفوقية لا تتوقف عند حدود الترفيه أو اللغة، بل تصل إلى سياسات الهجرة، حيث يُعامل اللاجئ العربي بازدراء واحتقار، كأن وجوده مؤقت مرغم، لا ككائن إنساني له كرامته وحقوقه.

ومن المثير للسخرية أن هذه الفوقية تتضخم في وقت تعيش فيه تركيا أزمات اقتصادية، تضخم مالي، استبداد سياسي، قمع للصحافة، تراجع في الحريات، وتوترات دولية، وكأن الهوية الجماعية تلجأ للفوقية كتعويض نفسي عن فشلها في تحقيق التوازن الداخلي. الفوقية هنا تعمل كآلية دفاعية: إذا لم نستطع أن نكون متفوقين حقاً، فلنقنع أنفسنا بأننا كذلك، ولنقمع كل من يخالفنا حتى نثبت لأنفسنا أن السيادة لا تزال لنا، ولو في الخيال.

لكن من أخطر مظاهر هذه الفوقية هو أنها تلبس لبوس الدين. فيتم تقديم تركيا كأنها حامية الإسلام، وممثلة لروحه، وكأن المسلمين الآخرين (خاصة العرب) قاصرون عن الفهم أو ضلّوا الطريق، وهم في حاجة إلى (القيادة التركية) لتصحيح البوصلة. هذا الخطاب ملغوم، لأنه يربط بين الدين والهوية العرقية، ويحوّل الإسلام إلى مشروع تركي لا إلى دين عالمي، وهو ما يعيد إنتاج شكل جديد من القومية المتدينة التي تُقصي الجميع تحت شعارات (الوحدة)..

بل أكثر من ذلك، فإن بعض الاتجاهات القومية التركية لا ترى في الإسلام سوى أداة نفعية. حين يخدم مشروعها التوسعي، يتم رفع الرايات الدينية وترويج مفردات الخلافة، وحين تُضرب مصالحها، يتم القرب من إسرائيل، والتودد للناتو، وتفعيل العلمانية الكمالية عند الحاجة، دون أن يهتز ضمير أو يتعرق الجبين.

فوقية الأتراك غير مبررة لأنها تقف على أرض رخوة. لا تستند إلى إنجازات علمية حديثة استثنائية، ولا إلى نموذج ديمقراطي ملهم، ولا إلى خطاب إنساني عالمي. بل تستند إلى إرث إمبراطوري منتهي الصلاحية، وسردية قومية تتغذى على إنكار الآخرين. هذه الفوقية أشبه بطاووس بلا ريش، يصيح في المرايا ليقنع نفسه أنه لا يزال جميلاً.

وإذا أردنا التفكير في مستقبل تركيا، فعلينا أن نتساءل: إلى متى يمكن لمثل هذا الخطاب أن ينجح؟ هل سيظل يُقنع الداخل التركي بالاستعلاء على الآخرين في ظل الواقع الاقتصادي المتردي؟ هل سيقنع الشعوب المجاورة بالتحالف مع دولة لا تحترمهم إلا حين تحتاجهم؟ التاريخ يعلمنا أن الفوقية العرقية والسياسية لا تؤسس علاقات مستقرة، بل تولد مزيداً من العزلة والصراع، وهو ما يفسر الفتور المتزايد بين تركيا والعديد من الدول العربية رغم محاولات الترميم الموسمية.

الحل لا يكون بتضخيم الذات، بل بالاعتراف بالذات كما هي، بتاريخها المضيء والقاتم معاً. تركيا ليست مركز الكون، ولا العرب خدم التاريخ. الجميع شركاء في الحضارة والدم والدموع. وكل أمة تحاول أن تعيش فوق الآخرين، ستجد نفسها وحيدة في قمة وهمية سرعان ما تنهار.

ربما آن الأوان لأن ينظر الأتراك في المرآة لا ليروا السلطان، بل الإنسان… ولعلهم حينها يضعون أيديهم في قلوبهم، لا في جيوب الآخرين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.