: آخر تحديث

عن عقيدة ترامب في السياسة الخارجية

4
4
4

منذ دخوله معترك السياسة، لازمت مقولة "غير قابل للتنبؤ" الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وما زالت هذه المقولة تلازمه، لا بل إن القرارات التي يصفها البعض بـ"الهوجاء" التي اتخذها خلال ولايته الأولى، واستمرت خلال الأشهر الأولى من ولايته الثانية، أكدت الفهم السائد حول عدم القدرة على معرفة ماذا سيفعل في اليوم التالي. وقد تجلى هذا الأمر بوضوح في مجمل قراراته في السياسة الخارجية خلال ولايته الأولى (2017-2021)، التي لم تنطلق من نظريات متعارف عليها في إدارة العلاقات الدولية، بل كانت في أغلبها عمليات توازن بين رغباته الشخصية، من جهة، وبين مواقف المؤسسات الأميركية التقليدية من جهةٍ أخرى، والتي نجحت في فرملته إلى حدٍ ما.  

لكن اليوم، وبعدما أدرك ترامب طريقة مناورات أجهزة ومؤسسات الدولة الأميركية البيروقراطية، لم يتردد في وضع أشخاص في مناصب مهمة وقيادية في عملية صنع القرار السياسي الأميركي الخارجي اعتماداً على معيار الولاء الكامل له، فأتى بشخصيات غير تقليدية ممن يوالونه ويؤمنون بعقيدته لترأس مؤسسات راسخة كبيرة ومهمة مثل وزارة الدفاع ووكالات الاستخبارات الوطنية المختلفة. وأصبح على رأس أولويات هذه المؤسسات والأجهزة العمل بكل الطرق من أجل ترجمة حسابات وتفضيلات الرئيس المتعلقة بأمور متداخلة ومعقدة بصور يطغى عليها الجانب الشخصي الذي يتحكم في ترامب، خاصة خبراته السابقة وإدارته للعديد من الشركات والمؤسسات التجارية والعقارية داخل وخارج الولايات المتحدة.  

إقرأ أيضاً: محددات الرد الإيراني على إسرائيل

وبالتالي، فإنَّ التمعّن في نمط قرارات ترامب وتوجهاته وتعييناته، لا سيما في ولايته الثانية، يكشف عن خيط ناظم يجمع بينها، يتمثل في نهج براغماتي متطرف يختزل السياسة الخارجية إلى معادلة الربح والخسارة المباشرة. وقد أدى ذلك إلى تحول السياسة الخارجية الأميركية إلى ساحة لإعادة تشكيل الأولويات والتحالفات وفقاً لمنطق ترامب الخاص، الذي يقوم على هذه المعادلة، بعيداً عن الالتزامات التقليدية التي حكمت سلوك واشنطن لعقود. ومع ذلك، لا يزال كثيرون ينظرون إلى ترامب كشخصية تفتقر إلى نهج متماسك، ويتهمونه بالعشوائية، واتخاذ قرارات غير منظمة في مواقفه وسياساته. غير أن الواقع يشير إلى غير ذلك، فعقيدته في السياسة الخارجية بدأت تتبلور تدريجياً، وتكتسب معالم واضحة تندرج ضمن إطار نظرية موحدة للصراع، تقوم على أربع ركائز أساسية.  

أولاً، تبادل المنافع، خاصة فيما يتعلق بالحروب التي يكون للولايات المتحدة دور فيها. فهو يعمل وفق نظام قيمي مختلف، فلا يرى الإجماع العالمي على ضرورة التصدي للعدوان أمراً أخلاقياً، بل مرتبط بالمصلحة، ويرى أن الزمن بدأ مع وصوله إلى السلطة، ولا يعترف بتاريخ لأي صراع، ويعتبر دوره هو إنهاء الأمور بأقصى قدر من المكاسب الممكنة لصالح واشنطن، إيماناً منه بتعبير المؤرخ اليوناني القديم ثوسيديدس، الذي ذكر أن "الأقوياء يفعلون ما بوسعهم، والضعفاء يعانون ما يجب عليهم أن يتحملوه".  

إقرأ أيضاً: الشُعوبيون الجُدد

ثانياً، تقليص السياسة إلى مقدار تكلفة الأشياء، مع التركيز على تعظيم الفوائد وتقليل الأعباء. إذ يرى ترامب أن النزاعات والمساعدات المالية لم تحقق مكاسب ملموسة للولايات المتحدة، بل شكلت استنزافاً لمواردها. وانطلاقاً من هذا، لم يكن مستغرباً أن يستخرج صفقة عقارية من حرب غزة، أو أن يسعى لتحصيل مكاسب مالية تفوق أربعة أضعاف قيمة المساعدات الأميركية لأوكرانيا عبر استغلال معادنها في سياق الحرب الروسية – الأوكرانية.  

ثالثاً، التركيز على علاقاته الشخصية في سياسته الخارجية، والذي يرجع إلى عدم قدرته على فصل رؤيته لأهميته الشخصية عن المصالح الوطنية الأميركية الثابتة. ولهذا، عندما يتحدث ترامب عن العلاقات الثنائية مع أي دولة أخرى أو عن أي حرب أو أزمة، يميل إلى التركيز على علاقاته الشخصية مع القادة الأجانب المعنيين، ويركز على تحقيق تنازلات من الطرف الآخر قبل أن يوافق على أي خطوة من جانبه، إذ ينظر إلى العلاقات من منظور "الصفقات" أكثر من كونها توازناً للمصالح المتبادلة. وما حدث يوم الجمعة 28 شباط (فبراير)، خلال مؤتمره الصحفي مع الأوكراني زيلينسكي، بلغ من الوضوح درجة لم يعد بعدها في حاجة إلى شرح شارحين، أو إلى جدال بين محللين.  

رابعاً، التخلص من أي مفاهيم تتعلق بالقوة الناعمة، والتي ينظر إليها ترامب على أنها مكلفة تستنزف موارد الولايات المتحدة، وفوائدها مشكوك فيها، وأنها مجرد أفكار مجردة وغير قابلة للقياس.  

إقرأ أيضاً: "ريفييرا ترامب" نكبة فلسطين الجديدة

وبالتالي، فإن ترامب في سياسته الخارجية، يتبنى عقيدة تستند إلى مفهوم براغماتي مصلحي، نابعة من عقلية رجل الأعمال الذي يتعامل بمنطق الربح والخسارة، وهو بذلك يعيد تعريف الدور الأميركي في العالم من منظور عملي بحت، يركز على المصالح الاقتصادية المباشرة دون الالتفات إلى الجوانب الأيديولوجية أو الأخلاقية التي لطالما كانت جزءاً من خطاب السياسة الخارجية الأميركية. وعليه، فإن ترامب بهذه العقيدة، يتجه نحو بناء نظام سياسي إقليمي ودولي يستند إلى مبدأ إعادة صياغة التحالفات القديمة، وبناء تحالفات جديدة تكون فيها الولايات المتحدة في موقع المنتفع المجاني، بحيث يتحمل الحلفاء والشركاء ما يتطلبه استمرار تلك التحالفات والشراكات من موارد تعزز القوة الأميركية وتدعمها، ولعل هذا النهج يفسر انسحابه من اتفاقيات دولية عدة، وتحركه بشهية وطاقة مفرطة، لإعادة صياغة دور بلاده في العالم.  

إقرأ أيضاً: نتنياهو والجابوتنسكية: 100 عام على "الجدار الحديدي"

ختاماً، يمكن القول إن عقيدة ترامب في السياسة الخارجية يمكن تلخيصها بعبارة "أميركا أولاً". وهي عقيدة تستند إلى مفهوم براغماتي مصلحي، تقوم على مبدأ الصفقة، في التعامل مع القضايا الخارجية، بعيداً عن التدخلات الخارجية المكلفة التي لا تحقق فوائد مباشرة للولايات المتحدة. يتم فيها إعادة تعريف مفاهيم "الصديق" و"العدو" في السياسة الخارجية وفقاً لهذه المصلحة، ويتم إبقاؤها متماسكة معاً بطرق كثيرة، بواسطة مواقف سياسية ومبادئ أيديولوجية متطرفة، وأوهام قومية قد تتناقض مع التاريخ الأميركي وقيم الآباء المؤسسين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.