إذا كان بناء الدول مهمةً صعبة، فإنَّ إعادة تشكيل الولاء في أمة قائمة على الروابط القبلية المتجذرة لقرون، مهمةٌ لا ينهض بها إلا قائدٌ ذو عبقرية سياسية فذّة، ونظرةٍ تتجاوز حاضر زمانه إلى آفاق المستقبل. لقد أدرك الملك عبدالعزيز، مذ أن بدأ مشروعه التوحيدي، أن السيطرة العسكرية وحدها لا تكفي لإقامة دولة متماسكة، وأن ترسيخ سلطته لن يتحقق ما لم يُصَغ الولاء بحيث يتجاوز حدود العاطفة القبلية ليصبح انتماءً عقلانيًا للدولة، قائمًا على المصالح المشتركة، لا على مجرد العادات والتقاليد القديمة.
القبيلة والوطن: من ولاء الدم إلى ولاء الفكرة
عندما دخل الملك عبدالعزيز الرياض عام 1902، كان ولاء الناس مقصورًا على القبيلة، أو الحاكم القريب، أو المصالح الشخصية المحدودة، بينما كانت فكرة "الوطن" غائبةً تمامًا من وعي سكان الجزيرة العربية. لقد كان على القائد الشاب أن يعيد صياغة الولاء، بحيث يكون للدولة لا للقبيلة، للأمة لا للفرد، للمصلحة العامة لا للمصالح الضيقة.
لكنه لم يختر المواجهة المباشرة مع التركيبة القبلية المتجذرة، وإنما استخدم نهجًا دقيقًا قائمًا على الفهم العميق للبنية الاجتماعية، حيث عمل على إدماج القبائل في مشروع الدولة، لا قسرًا بل إقناعًا، لا إلغاءً بل احتواءً، لا صدامًا بل توحيدًا.
كيف صنع الملك عبدالعزيز التحول في الولاء؟
لم يكن الانتقال من الانتماء القبلي إلى الولاء الوطني تحولًا فجائيًا، ولكن كان عملية ممنهجة تستند إلى عدة ركائز:
1- تحويل الدولة من سلطة قاهرة إلى مظلة جامعة
كانت بعض الدول التي سبقت عهد الملك عبدالعزيز تعتمد على فرض السلطة بالقوة وحدها، فتبقى الدولة في نظر الناس كيانًا غريبًا مفروضًا عليهم. لكن الملك عبدالعزيز أعاد تعريف السلطة بحيث أصبحت الدولة كيانًا يوفر الأمن، ويحقق العدل، ويحمي الحقوق؛ مما جعل الناس يرون فيها ملاذًا وحماية، وليس مجرد قوة حاكمة.
2- إدماج القبائل في نسيج الدولة الحديثة
بدلاً من إقصاء القيادات القبلية، جعلهم الملك عبدالعزيز جزءًا من النظام السياسي الجديد، لكن بآليات تضمن أن يكون ولاؤهم للدولة المركزية، وليس للقبيلة فحسب.
3- توظيف الرموز الثقافية والدينية لتعزيز الولاء الجديد
استثمر الملك عبدالعزيز في الهوية الدينية الجامعة، حيث أصبحت الدولة سلطة سياسية، وكيانًا يحمل رسالة الإسلام، ويخدم الحرمين الشريفين، ويرفع راية التوحيد، مما أضفى شرعية دينية ووطنية عميقة على الولاء للدولة.
4- إعادة تعريف مفهوم الزعامة
كان زعماء القبائل يعتمدون على النفوذ الشخصي والعلاقات الضيقة، بينما أعاد الملك عبدالعزيز صياغة مفهوم الزعامة بحيث يكون الملك قائدًا للجميع، لا لفئة دون أخرى، وحاميًا لمصالح الوطن كله، لا لمصلحة فرد أو جماعة بعينها.
5- التنمية كأداة لصياغة الولاء
لم يكن الولاء الوطني في ذهن الملك عبدالعزيز مجرد حالة وجدانية، وإنما جعله واقعًا ماديًا يعيشه المواطن، فحرص على إرساء مشاريع التنمية والبنية التحتية والخدمات التي تجعل المواطن يرى في الدولة مصدرًا لتحسين حياته، وليس مجرد سلطة فوقية.
من القبيلة إلى الوطن: عندما أصبح الانتماء حقيقةً ملموسة
لقد كان أعظم إنجازٍ للملك عبدالعزيز في هذا السياق هو أنه لم يُجبر الناس على تغيير ولائهم، بل جعلهم يرغبون في تغييره. ولم يفرض الدولة عليهم، وإنما جعلهم يرونها ضرورةً لحياتهم واستقرارهم ومستقبل أبنائهم. وبذلك، تحول الولاء من عاطفة قبلية إلى رابطة عقلانية، ومن انتماء ضيق إلى انتماء واسع، ومن علاقة شخصية مع شيخ القبيلة إلى علاقة مؤسسية مع الدولة.
عبقرية الملك عبدالعزيز في بناء الانتماء
إن ما قام به الملك عبدالعزيز تأسيس لدولة، وإعادة هندسة لمفهوم الولاء في مجتمعٍ كان مشتتًا بين القبائل والطوائف. لقد نجح في بناء وطن، ككيان سياسي وثقافي واقتصادي متكامل لا كإطار جغرافي فحسب؛ حيث أصبح المواطن السعودي يرى في الانتماء لوطنه شرفًا، وفي الولاء للدولة واجبًا، وفي خدمة الأمة رسالةً سامية.
وهكذا، كان الملك عبدالعزيز قائدًا وحّد المملكة العربية السعودية، ومهندسًا بارعًا في إعادة بناء الولاء الوطني؛ بحيث أصبح الانتماء للدولة جزءًا من وعي الناس، لا مجرد التزامٍ سياسي، وإنما حقيقة راسخة في وجدان الأمة السعودية.