في مساءٍ خريفيّ، كانت بيروت تضجّ بالحياة، وأضواء المدينة تعكس حكايات أهلها وسحرها الآسر. بينما كنت أستعد لرحلة طويلة، وقفت في مطار رفيق الحريري الدولي، متأملاً الوجوه من حولي، كلٌ منهم يحمل حلماً أو هاجساً أو ربما مجرد أملٍ بالوصول إلى وجهته بسلام. المطار يعج بالحركة، والمسافرون يتنقلون بين صالاته، يحملون حقائبهم وأحلامهم في آنٍ واحد.
بعد انتظارٍ دام لساعتين، حان أخيراً موعد الإقلاع. انطلقت الطائرة التابعة لطيران الشرق الأوسط "ميدل إيست" نحو محطتها الأولى في مطار شارل ديغول الدولي في باريس، قبل أن نكمل الرحلة الطويلة نحو الولايات المتحدة الأميركية، وتحديداً ولاية لويزيانا. عندما أقلعت الطائرة، شعرت أنني أترك خلفي جزءاً من روحي في بيروت، المدينة التي تأبى أن تغادر وجدان أهلها مهما ابتعدوا عنها.
استمرت الرحلة حوالى خمس ساعات، حيث بدت السحب البيضاء وكأنها بساط يمتد تحتنا، فيما كانت الطائرة تشق طريقها عبر فضاءٍ فسيح. المسافرون متنوعون، بعضهم غارق في نومه، وآخرون يتابعون أفلامهم المفضلة أو يقرؤون الكتب. وفي هذه اللحظات، كانت تأملاتي تأخذني بعيداً، حيث أفكر في تفاصيل الرحلة القادمة والتحديات التي قد تواجهني في أرضٍ غريبة، حيث كل شيء مختلفٌ عن الشرق الذي ألفته.
إقرأ أيضاً: لو كنت رئيساً لسوريا
هبطت الطائرة أخيراً في مطار شارل ديغول، أحد أكبر مطارات أوروبا وأهمها. كل زاوية في هذا المطار تعكس عظمة باريس، المدينة التي لطالما كانت مصدر إلهام للفنانين والمثقفين. الزجاج اللامع يغطي مساحات واسعة، فيما تنتشر المطاعم والمقاهي الفاخرة، التي تفوح منها رائحة القهوة الفرنسية الممزوجة بدفء المسافرين. استمرت فترة الانتظار ثلاث ساعات أخرى، كانت مليئة بالتجوال بين صالات المطار الواسعة، حيث تلتقي الثقافات المختلفة في مكانٍ واحد.
بعد طول انتظار، جاء موعد الإقلاع الثاني. كانت هذه الطائرة الفرنسية العملاقة مختلفة كلياً عن سابقتها، حيث اتساع المقاعد، والخدمات المتميزة، والترفيه المتاح لكل راكب. مع إقلاعها، بدأنا رحلة طويلة امتدت لأكثر من عشر ساعات، طافت بنا فوق المحيط الأطلسي الشاسع. كانت السماء مليئة بالنجوم المتلألئة، والمحيط يبدو بلا نهاية، كأنه مرآة تعكس أعماق الأزمنة والتاريخ.
على ارتفاع تجاوز الثلاثة والثلاثين ألف قدم، كان الزمن يبدو وكأنه توقف. بعض المسافرين استغرقوا في النوم، بينما آخرون كانوا يراقبون الشاشات الصغيرة أمامهم، مستمتعين بما تقدمه الطائرة من خدمات ترفيهية. وعلى مدار الرحلة، كان طاقم الضيافة بأزيائه الأنيقة يتنقل بين الركاب، يقدمون الطعام والمشروبات، ويحرصون على راحة الجميع، ما جعلنا نشعر وكأننا في فندق عائمٍ في السماء.
إقرأ أيضاً: الحنين والهجرة... وأثر الحروب
عند الوصول إلى مطار أتلانتا، بدأ فصلٌ جديد من الرحلة. كان استقبالنا الأول في قاعة الهجرة، وهي المكان الذي لا يمر منه أي مسافر إلى الولايات المتحدة دون مواجهة وابلٍ من الأسئلة المتكررة. وقفنا في طوابير طويلة، ننتظر دورنا للمرور أمام موظف الهجرة الذي سيقرر ما إذا كان بإمكاننا الدخول أم لا.
"ما سبب زيارتك؟"، "كم ستمكث؟"، "كم من المال بحوزتك؟"، "هل لديك أقارب هنا؟"؛ الأسئلة لم تتوقف، والإجابات يجب أن تكون واضحة ومباشرة. بعض المسافرين تجاوزوا هذه المرحلة بسهولة، بينما آخرون اضطروا إلى الانتظار لساعات، يخضعون لمزيد من التدقيق. كان هذا الاختبار الأول الذي يواجهه أي قادم جديد إلى الولايات المتحدة، حيث كل شيء منظم بدقة، ولا مجال للخطأ أو التهاون.
بسبب طول الإجراءات، فاتتني رحلتي الداخلية المتجهة إلى نيو أورلينز، ما أجبرني على إعادة حجزها، وهو أمر شائع في مثل هذه الرحلات الطويلة. الانتظار الإضافي لم يكن سهلًا، لكن كان لا بدَّ من التحلي بالصبر، ففي النهاية، هذه مجرد مرحلة من مراحل الرحلة الكبيرة.
بعد أكثر من ساعة من التحليق، حطّت الطائرة في نيو أورلينز، في ولاية لويزيانا. نزلت من الطائرة، وشعرت بأنفاس المدينة الرطبة التي تحمل في طياتها عبق التاريخ والموسيقى والألوان الزاهية. هنا، تمتزج الثقافات المختلفة، وتنساب الحياة في إيقاعٍ مميز لا يشبه أي مكان آخر.
لويزيانا ليست مجرد ولاية أميركية، بل هي عالمٌ مستقل بحد ذاته، حيث يلتقي التراث الفرنسي مع الأميركي والأفريقي، فتجد نفسك محاطًا بألحان الجاز المنبعثة من الأزقة، وبمذاق الطعام الفريد الذي يجمع بين نكهات العالم.
إقرأ أيضاً: برسم وزير الإعلام السوري
مع استقراري هناك، أدركت أنَّ الولايات المتحدة ليست مجرد بلد، بل هي فكرة، تجربة، واختبار للقدرة على التأقلم والتعايش مع الثقافات المختلفة. هنا، كل شيء يسير وفق إيقاعٍ دقيق: احترام الوقت، التفاني في العمل، والالتزام بالنظام. لكن رغم كل ذلك، هناك فجوة واضحة بين المجتمع الأميركي وما اعتدنا عليه في أوطاننا العربية. في عالمنا العربي، الأسرة هي الركيزة الأساسية، بينما في أميركا، الفردية هي المبدأ الذي يحكم كل شيء.
ومع ذلك، تبقى الولايات المتحدة أرض الفرص، حيث يمكن للجميع أن يحلم ويعمل على تحقيق أحلامه. وبينما كنت أتنقل بين المدن والولايات، أدركت أنَّ الرحلة لم تكن مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل كانت عبوراً بين ثقافتين، بين الشرق والغرب، بين الماضي والمستقبل. وهكذا، أصبحت هذه الرحلة أكثر من مجرد رحلة عادية، بل قصة ستبقى محفورة في الذاكرة، تروي تفاصيل مغامرة عبرت بها القارات، في رحلة غيرتني بقدر ما غيرت وجهتي.