إذا صح أنَّ شرّ البلية ما يضحك، فإنَّ لدينا في العراق من الأزمات ما يكفي ويفيض، فقد شهدنا تناسلاً لكوارث تفوق عدد مدن العالم؛ كل مواطن عراقي لديه حصة مقررة من هذه الأزمات التي لا تفارقه حتى آخر يوم من حياته، فلا يغادر أزمة إلا ويجد أمامه وجبات دسمة من المآسي والأحزان التي لا تنقطع.
لدينا سياسيون، من صنف منزوعي الدسم، وعشاق صناعة الأزمات، يتصرفون في شؤون الرعية كما يريدون خشية حساب ولا عقاب، وهم يؤزمون حياة العباد بعد أن فقّروا الشعب والوطن، وجعلونا في آخر قائمة الأوطان! ولا تجدُ مَنْ يقول لهم: كفى. وكانَ مارتن لوثر كينغ، محقاً، حين قال (المصيبة ليستْ في ظلم الأشرار، بل في صَمت الأخيار)!
أصبح (الورم العراقي) ورماً يحتاج إلى استئصال جذري، وجراحة (سياسية) تعيد الأوكسجين لما تبقى من الخلايا الطبيعية، حيث استهلكت الأحزاب (جلوكوز) الحياة العراقية، ودمرتها بالفساد والسرقة، وأعادت الوطن إلى القرون الوسطى، بسبب أيديولوجيتها المتخلفة. إنَّ اللهث وراء الأحزاب العراقية المريضة ما هو إلا كالسعي وراء السراب الذي يحسبه الضمآن ماء!
ولا أعتقد هناك شعب تألم مثل العراقي في تاريخه، وهو ألم موروث من قساوة البيئة، ومن الذين حكموه بالظلم والاستبداد. وهو يفيض بالحزن والبكائية في لغته وعاطفته وتكوينه الوجداني، لذلك ترى العراقي يحمل فوق كاهله الفواجع والهموم والأحزان، كأنه "جرح يمشي على قدميه وخيوله قد هدّها الإعياء" كما يقول نزار قباني.
إقرأ أيضاً: رمضان آخر زمن
الألم العراقي، صار قصة طويلة، وموروثاً سياسياً، وعقيدة حياة، لأنَّ الوطن تعرض لتجريف حياتي ظالم عبر العصور، ولم يمرّ على شعب في العالم مثلما مر على شعب العراق من حروب عبثية، وحصارات حاقدة، وأهوال كبيرة. صار مجهول الهوية لا يُعرف إلا من خلال أخبار الحروب والكوارث وفواجع القتل والفساد، وطوفان الدم والماء!
نعم هناك أزمة في العملية السياسية، لكن هناك أزمة إدارية لإدارة الحكم والخدمات تتعلق بنوعية العقول التي تدير البلد وتتصدى للمناصب، ومصالح الناس وحقوقهم. ومثلما هناك طوفان ببرك مياه الأمطار تغرق البيوت والشوارع، هناك أيضاً برك فساد تخرج من مجاري السياسة العفنة تلوث جمال النفوس والطبيعة والحضارة.
معادلة السياسة عندنا هي الولاء للحزب قبل الكفاءة العلمية، وأصحاب الخبرة، وقبل الوطن، وهي عبودية أفراد لزعماء وأحزاب، هدفها سرقة ما يمكن سرقته، والبطش بالآخر الذي يريد بناء وطن، وتحقيق مصالح انتخابية، وخداع الناس بمغريات المال.
إقرأ أيضاً: أزمة التدريب العملي
صحيح أنَّ الفساد هو الفاعل الأساسي لما نراه من تهديم وأزمات ونكبات، لكن المنظومة السياسية هي التي رعت هذا الفساد الممنهج، وهي التي قادت البلد إلى الأزمات المتتالية، والفوضى الإدارية التي هندسة الخراب والجهل، وأدت إلى تفعيل أزمات الطاقة والكهرباء والمياه والزراعة والصناعة والتعليم.
ومع الأسف، فإنَّ أمطار الخير كما كنا نطلق عليها أيام زمان، أصبحت اليوم نقمة على الناس، وهي ليست كذلك في بلدان بنيتها التحتية مهيأة لتقبل الأمطار كنعمة للحياة، حيث بناء المجاري بطريقة احترافية، وبدائل لاحتواء الماء بطرق مبتكرة، تذهب إلى بناء المستقبل، وليس لتهديم الحاضر.
مرة كتبت بأنني لست ضد بناء الجسور والمجسرات، فهي حالة حضارية، ومبدأ مطلوب لتنمية المدن الحديثة، خاصة عندما تختنق الشوارع بالسيارات الكثيرة، وتصبح عائقا للإنتاج أو عاملاً اجتماعيا ونفسياً تعكر مزاج البشر.
لقد وضعنا المطر الأخير وسيوله الجارفة أمام أسئلة ودروس كثيرة إزاء هذه المشكلة؛ الأسبقية لبناء المجاري الحديثة لاحتواء الأمطار والسيول، وإسقاط الموديلات القديمة للسيارات كحل الاختناقات المرورية، أم لبناء الجسور والمجمعات السكنية داخل المدن؟
إقرأ أيضاً: التعليم بالذكاء الاصطناعي
أعتقد أنَّ هناك أزمة إدارة واضحة؛ ضعف في العقل الإداري، وقصور في منهجية بناء الدولة وإدارتها، وعدم النزاهة في اختيار رجال الإدارة الأكفاء، وشيوع الرشوة والمحسوبية، والبحث عن مشاريع مستعجلة بدون جودة لاستثمارها في الانتخابات القادمة.
مؤلم أن ترى بغداد تغرق في برك مياه موحلة، وأن ترى بعينيك هذه الفوضى، والصور الحزينة للناس وهي تندب حظها، وقد دمرت مياه الأمطار تعب عمرها فجأة، وتنطفئ آخر طموحاتها في الأمل. وأن تجد مدن العراق تعيش في ظلام دامس تنتظر حلم الغاز الإيراني، ومفرقعات ترامب وتهديداته!
مؤلم أن تجد المواطن العراقي ما زال يحلم بحياة طبيعية مثل باقي البشر، وأن يرى بعينيه هذه الفوضى الحياتية، وهذا العبث والهراء، وأن ترى أجيالاً من الشباب تنقرض بين شوارع بسطات السكاير والشكولاتة وقناني الغاز وجلكانات النفط المهرب، ومقاهي اللهو والمحرمات والعبث الحياتي، وأن تشم رائحة الدخان الأسود المُسرطّن، وسموم النفايات المختلفة. وأنت تعيش في وطن كان يا ما كان في قديم الزمان؛ يقال عنه: وطن العلم والثقافة والفنون والحضارات المختلفة.
إقرأ أيضاً: عودة (رنكو) الأميركي
سلام على العراق الذي أعياه الصبر والنوائب والأحزان، يكابده المكابرة مرة، والذبول مرة أخر، لا يدري أين مصيره؟ مؤلم أن تغرق بغداد الحضارة وأن نغرق معها! يا صبر أيوب... إنا معشر الجرح والألم!