على أثر وفاة الناقد المصري، محمد مندور عام 1965، نعاه للأوساط الثقافية في المغرب، الطالب الذي درس عليه في جامعة القاهرة. رثاه بمقالة نشرها في الصفحة الأخيرة من جريدة "العلم" التي أصبح الطالب الفاسي النجيب مديرا لها.
اختار "غلاب "لمرثيته عنوانا عكس الحزن والإعجاب والاعتراف، وهو الوفي المريد، بفضل أستاذه عليه، واصفا فكره بكونه “ظل يلمع حتى الموت".
وإذا كان عنوان المقال ينطبق على مفكر أو أديب أخر، بعد "مندور" فلا يوجد سوى عبد الكريم غلاب نفسه، وقد التحق بأستاذه شيخ النقاد العرب.
هذا الأديب والسياسي، الذي رحل عن دنيانا، صبيحة يوم الاثنين 14 أغسطس بمدينة الجديدة (جنوب الدار البيضاء) حيث كان يمضي عطلة الصيف، بعيدا عن رطوبة العاصمة الرباط التي ووري بها الثرى في اليوم الموالي.
والحقيقة أن ذهن غلاب، وهو أيضا صاحب مؤلف بعنوان “نبضات فكر" لم يتوقف، وقد تقدم به العمر بعقود عن أستاذه المصري، عن التأمل والتفكير في شؤون السياسة والأدب وقضايا الحياة والمجتمع؛ منذ أربعينيات القرن الماضي، وهو طالب بعثة في مصر، ثم بعد عودته الى وطنه عام1948 واكتمال نضجه الأدبي، فصار له اسم معلوم بين اقران معدودين، في مشهد ثقافي مغربي ناهض، غداة الاستقلال.
وسيصعب الجواب على سؤال وارد ومفترض: من انتصر على "غلاب " وغلبه: السياسة أم الأدب؟ إجمالا يمكن القول إنه لم يسمح لجانب أن يتفوق على الآخر؛ فقد كان في حاجة إليهما معا في معركتي السياسة والثقافة؛ لذلك ظل حريصا طوال حياته المديدة التي قاربت القرن، على إقامة تواز قدر الإمكان، بين الإبداع الأدبي، وهو أحد المجددين المؤسسين في فنونه: الرواية، السيرة الذاتية، المذكرات، المقالة النقدية، الخاطرة. ...
في كل تلك الأنواع ، خلف الراحل نتاجا غزيرا، خص الكثير منه لجريدته "العلم" ولدوريات ومنابر ثقافية مشرقية ومغربية؛ ليجمع منه لاحقا ما يرتئيه صالحا للنشر ضمته كتب صدرت تباعا :في القاهرة وبيروت والدار البيضاء والرباط، حققت للمؤلف انتشارا ورواجا وسمعة في المغارب والمشارق؛ بالنظر إلى المكانة الرمزية المعتبرة التي اكتسبها "غلاب " بحضوره كفاعل ثقافي بامتياز، فضلا عن صفته كمناضل ومسؤول سياسي، منذ صباه في صفوف الحركة الوطنية المغربية، فسيق بسبب نشاطه إلى سجن أوحى له بكتابه "سبعة أبواب " الذي قدم طبعته المصرية الأولى استاذه محمد مندور، وصدرت عن دار المعارف العتيدة.
آمن "غلاب" المثقف بما يمكن تسميته ب “الالتزام الأخلاقي" أقصد ذاك الممزوج بجرعات تقل وتكثر، من السياسة، دون تركها تغطي على صوته ككاتب فرد.
والأهم أن انتماء غلاب" وإخلاصه لتنظيم سياسي (الاستقلال) لم يسجنه في قفص الحزبية الضيقة، ما جعل قراءه من الأدباء والمثقفين ينزلونه في مرتبة أسمى من الصفة الحزبية.
تلك الثنائية بين السياسة والأدب ، التي حكمت أجمالا، المسار الفكري للراحل "غلاب" لم تشكل أي ارتباك أو تناقض في مساره ونشاطه العام
أكيد، يوجد من يعتقد، وربما عن حق، أن صاحب "دفنا الماضي" الرواية الأولى الناضجة فنيا في سجل الأدب الحديث بالمغرب، غلب السياسة على الأدب، حتى إنهم يضيفون : لو خصص الكثير من وقته للتأمل في تجربة الكتابة وإغنائها واستكشاف دهاليزها؛ لأصبح أديبا من طراز مختلف. رغم ذلك يشبهه نقاد ودارسو الأدب المغاربة ب “نجيب محفوظ" بلادهم.
والمؤكد أن الأديب المغربي الراحل، كان شاعرا بالتوزع بين إغراء الخيال الأدبي ومتعة النشاط السياسي. وكثيرا ما لمح في أحاديثه إلى أنه اختار عن وعي وقناعة الوفاء لقضايا الشعب ومطالبه في الحرية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية على حساب الأدب. فكأنه يرد على منتقديه بالقول الأفضل لي وعندي، أن أنال رضا الشعب بدل إعجاب نقاد الأدب، لكنه سيكون سعيدا أكثر إن نال إطراء الطرفين
وسيكون من قبيل التعسف، تصنيف غلاب في خانة السياسة وحدها أو الأدب بمفرده. إنه مثقف مزدوج شامل، مزج كتابة وفعلا، بين المنزعين، دون طغيان جانب على آخر. وباستثناء الكتابات المباشرة التي افتضاها الصراع السياسي، فإنه انساق مع حسه الأدبي
وعلى الرغم من أن حزب الاستقلال، جنح دائما إلى الاعتدال ودافع عن الاستقرار السياسي، متشبثا بالملكية الدستورية كنظام حكم؛ فإن الوئام لم يدم طويلا بين الحزب ونظام الحكم. ومن الانصاف هنا التأكيد أن الملك الحسن الثاني، كان يجل رئيس الحزب علال الفاسي ويشيد بعلمه وتضحياته في المنفى من اجل الاستقلال. لكن غلاب اعتبر دائما إبعاد الحزب في فترات، عن السلطة، خروجا على ميثاق وعهد بين الملك والحركة الوطنية
شكل الخلاف السياسي، ظاهرة متكررة في المغرب الحديث العهد بالاستقلال، تباينت اراء نخبه السياسية بخصوص البحث عن الطريق الأنسب لتشييد دولة حديثة؛ لذا كثرت واشتدت المعارك الحزبية
في هذا السياق، تحولت جريدة "العلم" وهي الذراع الصحافي لحزب الاستقلال، إلى الوسيلة الإعلامية الذائعة التي رفعت لواء الحرب ضد الاختيارات السياسية التي اعتمدها النظام وخاصة بعد اصطفاف حزب الاستقلال في المعارضة، جنبا إلى جنب مع حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، اللذين سيتحدان بعد انفصالهما ويتقدمان معا بأول ملتمس رقابة ضد الحكومة، في تاريخ الحياة البرلمانية المغربية الفتية
وخلال مناقشات الملتمس في مجلس النواب، ارتفعت نبرة النقد من المعارضة والحكومة، زادها سخونة وتأجيجا أن العاهل الراحل الحسن الثاني، أعطى الأمر، وسط ذهول الطبقة السياسية، ببث مباشر لوقائع الجلسات الساخنة في البرلمان صيف 1964 عير أمواج الإذاعة الوطنية، وعاش المغاربة إذ ذاك فرجة سياسية لم يعهدوها من قبل.
خلال تلك الأجواء المشحونة، اشتد الصراع السياسي في المغرب لينتهي في خاتمة الشوط بإعلان حالة الاستثناء التي فرضتها حوادث الدار البيضاء في مارس .1965
وعلى مدى عقد من الزمن السياسي المغربي، إلى غاية 1975 عام المسيرة الخضراء، ساد سجال وعراك ضاري بين المعارضة والحكم، لعبت "العلم" بإدارة "غلاب" الدور الأساس في إذكائه.
ومثلما تنتهي جولات السياسة، دخل غلاب البرلمان وأصبح وهو الكاتب الملتزم، وزيرا في حكومة ائتلافية، قانعا بحقيبة لا صلة لها باهتماماته الفكرية (الإصلاح الإداري) إنه انتصار البراغماتية في أجلى معانيها.
لم يجد "غلاب" بدا من الامتثال للقرار الحزبي، ومغادرة عرينه في "العلم" لكن الحنين سيعاوده سريعا إلى القلم و"العلم" ليستأنف منها مسيرة معارضة متأثرة صعودا ونزولا بأحوال الطقس السياسي في مغر السبعينيات وما بعدها، حيث سيبرز انشغال “غلاب" وقد وهن الجسد، بالفكر الديني واسترجاع الذكريات المضيئة في سجل حياة زاخرة بالعطاء.
رحل “غلاب" قرير العين، كما وصف أحد المقاومين، وهو يسلم الروح مطمئنا انه أدى واجب الكفاح الوطني. لم يعذبه المرض لكنه عانى من قساوةشيخوخة لم يتحرج في نعتها ب "الظالمة"