: آخر تحديث

حصاد التردد الأميركي

19
20
26
مواضيع ذات صلة

لا أجد تفسيراً للسلوك الأميركي حيال الممارسات الإيرانية في السنوات الأخيرة سوى أنه تجسيد للتردد والحسابات الخاطئة، التي بدأت منذ توقيع الإتفاق النووي عام 2015. 

مؤخرا دعت الولايات المتحدة مجلس الأمن الدولي إلى "جلسة إحاطة" بشأن إستخدام روسيا طائرات مسّيرة إيرانية الصنع في أوكرانيا، وتضامنت كل من فرنسا والمملكة المتحدة مع المطلب الأميركي، وقالت البعثة الأميركية لدى الأمم المتحدة أن الأمر يتعلق بـ"إحاطة خبراء" للنظر في المشتريات الروسية من المسّيرات الإيرانية بما ينتهك قرار مجلس الأمن في هذا الشأن.

رغم النفي الإيراني الرسمي، فإن الشواهد جميعها تؤكد أن هناك مسّيرات إيرانية تعمل في أوكرانيا، ولكن ليست هذا محور نقاشنا هنا، ولكنني استخلص مما يحدث مسألة حيوية تتعلق بالأمن الإقليمي الشرق أوسطي، حيث تنتشر المسّيرات الإيرانية من حولنا في اليمن والعراق وربما لبنان والأراضي الفلسطينية لأن من استطاع تهريب هذه الطائرات لليمن يمكنه إتباع الوسائل ذاتها لتهريبها إلى مناطق أخرى لتحقيق أغراضه في ملفات أخرى.

ماسبق يعني أننا بصدد مصدر تهديد إيراني جديد، وأن المسألة لا تتوقف عند الخطر النووي، بل تطال مصادر أخرى أخطرها المسّيرات الإنتحارية الإيرانية من طراز "شاهد"، التي تقول مصادر إعلامية عدة أنها قصفت مدناً أوكرانية، التي تثير قلق الغرب بشكل عام، حيث فرضت دول أوروبية عدة عقوبات ضد إيران بسبب تزويدها روسيا بطائرات مسّيرة.

لسنا هنا بصدد دعم هذا الطرف أو ذاك في الحرب الأوكرانية، فكييف نفسها تستخدم طائرات كاميكازي مسّيرة منها طراز "سويتش بليد" أميركي الصنع، وبالتالي لسنا في معرض الانتصار لموقف هذا الطرف أو ذاك، ولكننا نتحدث حصرياً عن خطر الترسانة العسكرية الإيرانية على الأمن والاستقرار الاقليمي، فإيران التي أصبحت مزود أسلحة لدولة كبرى مثل روسيا، لن تقبل بالعيش كدولة طبيعية، لاسيما في ظل نظامها الذي يمتلك مشروعاً توسعياً إقليمياً بدأ منذ سنوات، علاوة على أن موازين القوى الدولية باتت مهيأة لحساباتها الإستراتيجية إن لم تكن داعمة لها، في إطار المصالح المتبادلة.

خطورة إمتلاك إيران لهذه النوعية من الأسلحة المدمرة قليلة التكلفة تكمن في سوء إستخدامها المؤكد، والذي ثبت من نشرها بيد الميلشيات في دول عربية عدة، وقد قرأت بالأمس تقريراً عن الفوضى التي يمكن أن تحدثها المسّيرات الإيرانية في البحار والمحيطات، بعد تطويرها واتاحة إمكانية إطلاقها من على ظهر السفن والقطع البحرية، ما يعني أن هناك إحتمالية كبيرة لمزيد من الفوضى والاضطرابات في مناطق بحرية مختلفة تسعى إيران لبسط نفوذها فيها، لاسيما في الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر العرب.

بالتأكيد أن التردد الأميركيفي التعامل مع إيران وغياب أي إستراتيجية أميركية واضحة لاحتواء الخطر والتهديد الإيراني عدا تلك الاستراتيجية القائمة على إحياء الإتفاق النووي الملىء بالثغرات والعيوب، والذي فتح الباب على مصراعيه أمام تغول إيران إقليمياً منذ عام 2015، عدا ذلك لا توجد لدى مخططي السياسات الأميركيين أي إستراتيجية للتصدي لإيران نووية، التي يعترفون علناً ورسميا بأنها على الأبواب، وأن مايفصلنا عنها هو أسابيع معدودات أو أشهر قلائل على أقصى التقديرات. غابت مخالب القوة العظمى وتآكلت قدرتها على الردع أو حتى بناء التحالفات القادرة على التصدي للتهديدات، بل أصبحت تمضي في إتجاه مضاد وتهدم ما تبقى من تحالفاتها القديمة مثلما يحدث مع المملكة العربية السعودية، وتترك بقية الحلفاء الاستراتيجيين مثل إسرائيل في مهب الريح من دون أن تقدم لهم سوى وعود بالتزامات أمنية لا يستطيع أحد التيقن منها في ظل حالة الارتباك والتردد التي تسيطر على الإدارات الأميركية المتعاقبة في السنوات الأخيرة.

الكل يركز أنظاره على خطر "النووي" الإيراني، وهو تهديد حقيقي لا يمكن التهوين من تداعياته الاستراتيجية المحتملة على أمن الدول الشرق أوسطية، ويكفي الإشارة إلى أن مدى المسّيرة "شاهد 136" الإيرانية يبلغ أكثر من ألفي كم وقادرة على حمل رأس تفجيري بزنة 50 كجم، ما يعكس قدرتها التدميرية ضد منشآت مدنية حيويةـ كما تنتج إيران منذ عام 2018 مسّيرة تستطيع التحليق لمدة 12 ساعة متواصلة، بمدى يفوق ألفي كم وأعلنت قبل نحو عام عن تطوير مسّيرة قادرة على الوصول إلى حيفا وتل أبيب منها المسّيرة "اراش 2"،  المصممة خصيصاً لضرب أهداف إسرائيلية بحسب الجنرال كيومرث حيدري قائد القوات البرية الإيرانية، ما يعني بالتبعية أن مدن دول مجلس التعاون الخليجي جميعها في مدى هذه المسّيرة. 

ونرى أن النظام الإيراني قد يتجه في القريب إلى نشر المسّيرات بشكل متزايد لدى الميلشيات الموالية إقليميًا  وسيزود هذه الميلشيات بطرازات حديثة من هذه الطائرات بما يضع الجميع في منطقتنا أمام تهديد قاتل، والأخطر أنه يمكن استخدامه، بالنظر إلى أن قرار إستخدام المسّيرات في عمليات تدميرية يبقى أقل سهولة من قرار اللجوء إلى سلاح دمار شامل مثل قنبلة نووية تكتيكية كانت أم تقليدية، ناهيك عن أنه يوفر لإيران سهولة إنكار المسؤولية مثلما يحدث حالياً في الرد على دورها في الأزمة الأوكرانية، وهذا السيناريو يستحق الدراسة والاهتمام والمراقبة من الدول المعنية، كي لا يفاجىء الجميع بغابات من المسّيرات إيرانية الصنع أو تلك التي تعتمد على تكنولوجيا إيرانية متطورة يتم نقلها للميلشيات، أو حتى تهريب الطائرات كأجزاء وتجميعها في مناطق الاستخدام، علماً بأن التقارير تؤكد أن "حزب الله" اللبناني يمتلك ترسانة من الطائرات المسّيرة يبلغ عددها نحو ألفي طائرة بقدرات مختلفة، حصل عليها من إيران أو قام بتصنيعها محلياً، وأن الحزب يمتلك خبرات في إستخدام هذه الطائرات اكتسبها خلال فترة الصراع في سوريا.

المسّيرات بأنواعها وأمديتها المختلفة هي سلاح إيران القادم في إطار نشر الفوضى والاضطرابات الإقليمية، وهي مسألة يصعب السيطرة عليها والتعامل معها بشكل فردي، ما يتطلب تعاوناً معلوماتياً وتقنياً وتسليحياً فعًالاً بين دول الخليج العربي جميعها و إسرائيل، لأن قواعد اللعبة التي تغيرت في الحروب تستلزم تغيرات موازية في الحسابات الإستراتيجية للدول. أما الولايات المتحدة التي لا تزال تأمل في توقيع إتفاق لإحياء الاتفاق النووي، فستبقى في حالة رد فعل حيال الأفعال الإيرانية المتكررة، التي لا تفاجىء دوائر المعلومات الأميركية بالتأكيد ولكنها تعمق حالة الارتباك والتخبط لديها، لدرجة الاكتفاء باستجداء جلسة إحاطة في مجلس الأمن.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في