: آخر تحديث

نرجسيّة رقميّة

66
59
58
مواضيع ذات صلة

بالمقارنات الزمنية، تبدو النرجسية واحدة في المفهوم، ومختلفة في قوة الدرجات، واختلاف النتائج. فأما الموت الجسدي أو العيش على أجهزة التنفس الاصطناعي في الحياة. هكذا اكتشفنا الحقيقة من الميثولوجيا الإغريقية التي تقول إن (نرسيس) رأى ذات يوم خيال وجهه على صفحة الماء، فهام عشقاً بذاته، واضطربت أحواله، وأرهقه العياء، حتى مات. وفي العلم الحديث هو اهتمام استثنائي بالذات أو الإعجاب بها، وتضخيم الفرد من أهميته وقدراته الذي يجعله يؤمن بأنه فريد من نوعه. حيث تتميز الشخصية بالغرور والتعالي، والاهتمام بالمظهر الخارجي، والشعور بالأهمية، والتكبر والعجرفة، والأنانية، وتضخم أوهام النجاح والقوة. وهذه الحالات تم تشخيصها من قبل علماء الطب النفسي كونه مرض نفسي يطلق عليه (اضطراب الشخصية النرجسية).

والنرجسية هي ليست فردية لتدمير الذات نفسيا، إنما هي مشكلة اجتماعية أو ثقافية تدخل ضمن نظرية السمات لتقييم الشخصية. هي إحدى سمات الشخصيات الثلاثة في ثالوث الظلام إلى جانب كل من المكيافيلية والاعتلال النفسي. وعادةً ما تمثل النرجسية مشكلة في علاقات الفرد مع ذاته أو مع الآخرين. 

هناك جدل علمي واسع حول قوة النرجسية بين الجيل القديم والجديد. البعض يرى بأن النرجسية هي واحدة في كل الأجيال، لأنها مرتبطة بالجينات والبيئات الاجتماعية وثقافة المجتمعات. ربما كانت محصورة وسط النخب الثقافية والسياسية. بينما يرى آخرون بأن التكنولوجيا ساهمت في رفع منسوب النرجسية. وأيقظت الحس النرجسي في الذات الإنسانية. وباتت أكثر شيوعا في الحياة، وأكثر ظهورا من قبل. بل يعتقد البعض بان النرجسية أصبحت مرضا وبائيا منتشرا بكثرة من حولنا. وآخر يتحدث عن (نرجسية معولمة). 

وبالمقياس العددي، فالنرجسية الجديدة خلقت (أنوات) مضاعفة لا تتألف من الأصدقاء والأقرباء فقط، وإنما أيضا من عدد كبير من الأصدقاء الافتراضيين. وهذا هو سر انزعاجنا من انقطاع شبكة الإنترنت عنا، لأننا نشعر بأننا خرجنا من حقل الآخر، وغادرنا الرابط الاجتماعي.
 ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن جملة من الدراسات الحديثة التي تقارن السمات والأهداف الحياتية للشباب تظهر زيادة ملحوظة في تقدير القيم الشكلية والظاهرية بدلًا من القيم الجوهرية؛ هكذا يبدو أن جيل الألفية هم أكثر عرضة لتقييم المال والصورة والشهرة على المجتمع والانتماء وتقبل الذات بما هي عليه.

منذ ما يقارب ألفين ونصف عام، كتب سقراط أن (الفعل) هو شرط الوجود. في حين يبدو أن شرط الوجود اليوم هو الحضور المكثف في شبكات التواصل الاجتماعي. ولعل ذلك لا يعد شذوذًا عن حاجة الإنسان الأزلية لأن يكون مَرْئِيًّا، ومن ثمّ أن يحظى بشاهد على وجوده. بمعنى أن يمنح قيمة لهذا الوجود.فالشبكة العنكبوتية في إخراجها للحياة الخاصة صارت (أنا عليا) جديدة. فالعلاقة معها تمثل بعدا نرجسيا دون شك. لذلك يبحث الفرد عن أكبر عدد ممكن من اللايكات والتعاليق لإثبات شخصيته. 

هكذا تختبئ نرجسيات الإنسان داخل مواقع التواصل الاجتماعي. وتبدو الإشارات والرموز كأنها شاهد حي على نرجسية الذات. فلا يمر لحظة زمنية ومكانية دون التقاط صور شخصية، وبأوضاع مختلفة ورفعها على صفحته. فلا يسلم طعامه وشرابه وملابسه وزياراته الشخصية من هذه الصفحات الفيسبوكية. استعراضات شخصية وعائلية تبدو خارج سياق المعقول. فلم يعد (السلفي) هو السلوك النرجسي الوحيد إذ تختلف أنماط السلوك النرجسي تبعًا لاختلاف الشخصيات واختلاف السياق الاجتماعي. فهناك ممارسات كثيرة تتعدى البعد المادي إلى الاجتماعي والشخصي حيث الشعور بالمنافسة مع الجميع ولا أحد. والتلذذ بلايكات الإعجاب والتعليق، وإظهار مدى شعبيته بين الأصدقاء. وتضخيم نشاطاته الحياتية والعلمية والثقافية حتى ولو حصل على تقدير من مؤسسة لا مكان لها من الأعراب ومصابة بالعوق العلمي! 

بالمقابل هناك في العلم من يستثمر ما يكتبه الإنسان لتحليل شخصيته ومعرفة اتجاهها ورغباتها وطريقة سلوكها. وبعبارة أخرى إن الكلمات البسيطة التي يكتبها في صفحته تكشف لنا عن الكثير من المزايا والخصائص غير المرئية في شخصيته. بل هناك مؤسسات سرية تستثمرها في جمع المعلومات عن الأشخاص للإيقاع بهم أو متابعة نشاطات الجماعات والأحزاب والدول وتحليلها وتبويبها في سياقات عملها الاستخباري والسياسي والتجاري.

لا غرابة، على سبيل المثال لا الحصر، أن تعترف إدارة الفيسبوك بامتلاكها معلومات هائلة عن مستخدميها عن الوقت الذي يقضيه كل منهم في التصفح، وعن جميع المحادثات التي ترد في رسائلهم من اجل بناء صورة متكاملة عن أي مستخدم، والتي يستطيع بعدها توجيه إعلانات معينة لهذا المستخدم بحسب ميوله ورغباته. وربما تقديمها إلى المؤسسات السرية لأهداف معلوماتية.

ولكي نفهم خريطة سلوك الإنسان اعتمادا على سلوكه في الفضاء الرقمي، فقد قدم الباحث بيرناردو تيرادو تفاصيل الخريطة السلوكية بالنماذج الأربعة: الأولى شخصية المتلصص الذي ينظر ويراقب ويتابع ما ينشره الآخرون من أصدقائه على صفحات أي منشور (بوست) من غير ما يقوم بأي نشاط على صفحته ولا يقوم بالإعجاب أو التعليق. الثانية، شخصية الناشر الذي ينشر حوالي 3 بوستات في اليوم، وهو يستعمل الفيسبوك من اجل التواصل مع الآخرين بعد عودته من عمله أو أثناء عمله، إذ يقوم بوضع منشورات ونشر صور مختلفة كما يعلّق على منشورات أصدقائه. الثالثة شخصية نرجسية التي تجعل كل ما ينشره في الصفحة متعلقا به، ويدور حول ذاته من صور أو عبارات أو تعليقات، ونادرا ما يعلّق أو يقوم بكتابة تعليقا على منشورات الآخرين ألا إذا كان فيها، على نحو واضح أو خفي، إشارات لتعزيز وإثراء نفسه والإعلاء من شأن شخصيته.أما الرابعة فهي شخصية الواعظ الذي ينشر أكثر من أربع منشورات يوميا، وتجد لديه الكثير من الوقت الذي يمكن أن يقضيه على الفيسبوك يمارس فيه عمله الرقمي من خلال نشر أمثال ومقولات وصور وعبارات وعظيه، كما أنه يضع تعليقات متنوعة على منشورات الآخرين من أجل أن يخفي ما يدور في حياته الواقعية.

وهناك من يضيف عليها نماذج أخرى،فهناك شخصيات تستخدم الفيسبوك لأغراض تجارية. وأخرى تدير صفحات السياسيين والأحزاب والمشاهير والحركات السياسية والدينية. إضافة إلى وجود الصفحات المُقنعة التي يمارس فيها أصحابها من كل الجنسين ما يعجز أو يخجل عنه في الحياة الواقعية! لذا تجدها صفحات مموهة بأسماء مستعارة لا تكشف عن الهوية الحقيقية لصاحبها 
بالمنطق العلمي، المبالغة في وصف النرجسية بالمرض هي أيضا نرجسية علمية لتضخيم الصورة. لأن هناك نرجسية (صحية)، مثلما هناك نرجسية (مرضية). فشعور الفرد بالتميز مفيد له. إنه يشحذ الثقة بالنفس لتطوير الذات وتنميتها. لكن الشعور بالتميز الزائد قد يسبب مشاكل على الحياة اليومية للفرد، وكذلك على المجتمع. خاصة عندما يرى النرجسي نفسه فوق الجميع.

أهم شيء تنتبه إليه دائما هو أن النرجسيين أساتذة الإغواء والعظمة والاستعراض. ويؤمنون بأن الكون يدور حولهم. وقدرهم أن يعيشوا في عالم لا يوجد به شيء أكبر من أنفسهم. إياك أن تشتبك معهم. وتذكر في النهاية أنهم لا يفكرون فيك على الإطلاق! 
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي