: آخر تحديث

مراجعات في الحداثة الغربية والآداب العربية

5
5
4

عبدالله الزازان

ارتبطت الحداثة الأدبية أوائل ظهورها في أوروبا بالقطيعة مع الماضي، بالخروج على التقاليد والأساليب القديمة، واستبدالها بأساليب تعبيرية جديدة، وتقنيات ومناهج كتابية حديثة. فإذا ما وقفنا على حالة الأدب العربي، نجد أن الحداثة سعت إلى تحرير الشعر من نظامه القديم، وإخراج القصيدة العربية من بيئتها التقليدية، إلى التفعيلة، وقصيدة النثر، أو بشكل عام الشعر الحر، وفي الرواية تطورت تقنيات الكتابة الروائية، من خلال تجديد البنية السردية، وتحديث أساليب السرد. أما على نطاق الخليج العربي، فبعض الأدباء تبنوا تقنيات حديثة، في مجالي الشعر والرواية تماهت مع نتاج الحداثة الغربية، فظهرت الرواية، بشكل فني جديد، محاولة تقليد أساليب السرد العالمية، أما القصيدة فقد كسرت القوالب التقليدية، والنمط الخطابي، واتجهت إلى اللغة الذاتية وشعر التفعيلة، والنص المفتوح على النمط الأدبي الغربي. وانتظمت الحداثة العربية، متأثرة بالبيئات الغربية، وكانت البعثات إلى أوروبا أحد الروافد الأساسية التي نقلتها، فقد عاد الدارسون العرب في الستينيات والسبعينيات يحملون أفكار الحداثة، كما لعبت الترجمة دورًا محوريًا في نقل الأفكار الغربية. كان ذلك الجو العام الذي تصاعد فيه الحظ البياني للحداثة الأدبية العربية. كانت الحداثة في ذلك الوقت تكافح لتوجد لنفسها موطأ قدم في الإعلام خاصة الصحافة، إلا أنه مع نهاية السبعينيات، وما أن بدأ العرب التداخل مع الحداثة تداخلًا عميقًا، حتى بدأ الغرب يودع الحداثة إلى ما بعد الحداثة. وتأثرت بعض النخب العربية بالحداثة، إلا أن البعض وظفها توظيفًا سلبيًا، من خلال تهميش وجهات النظر المختلفة معه، حيث لم تتمكن من الاستيعاب الفكري للحداثة كتفكير نقدي، وإنما رأت فيه منتجًا غربيًا، سعت إلى استنساخه وتقليده واستخدامه وسيلة للذاتية وكسب الذيوع والشهرة، وجهازًا للدعاية غير الذكية. على أي حال تراجعت الحداثة وتلاشت، ثم غابت عن المشهد، وحلت الليبرالية مكانها، وأخذت دورها كاملًا، فالليبرالية جزء من الحداثة، وإن كانت العلاقة بينهما متشابكة ومتداخلة ومعقدة، فهنالك من يرى أن الليبرالية أسهمت في تشكيل الحداثة، ومن يرى أن الليبرالية أحد الأفكار الرئيسة للحداثة. فالحداثة تصنع أفكار التطور، والليبرالية إحدى تلك الأفكار. فرضت الليبرالية العربية نفسها على المشهد، مشددة قبضتها على الصحافة، حيث عرف في تلك الفترة صحفيون ليبراليون، تبنوا نوعا من الليبرالية، لا يمت لليبرالية الغربية بصلة، وأصبحوا مجرد واجهات إعلامية، ليس لديهم عمق ثقافي وفكري، تحكمهم حالة من الانبهار والتقليد والتبعية. ولكن أحب أن أؤكد على حقيقة أساسية، وهي أن خيارات الإنسان في كونه ليبراليا أو غير ليبرالي، قرار فردي في المقام الأول يأخذه الفرد باختياره في ضوء دواع شخصية، وفكرية، ونفسية، واجتماعية، وثقافية، ونحن لا نريد أن نتناول الموضوع من هذه الزاوية على الإطلاق، فالموقف الأمثل حيال هذا الموقف الفردي الشخصي، هو احترام حرية الفرد الأساسية وتقييم خياره النهائي من النواحي التي تهم المجتمع العريض، وتقييم الآثار التي تترتب على هذا الخيار سلبًا أو إيجابًا. وإن كنا نتصور مدى صعوبة تكيف الليبرالية بنسختها الغربية مع الواقع العربي، حتى أولئك الذين يعتقدون أننا نعيش في مجتمع بدائي ومتأخر، وأن الحياة الليبرالية هي النعيم الحقيقي، حتى هؤلاء يصطدمون بالأعراف الليبرالية المعقدة، وينكمشون من طرائق التعامل التي لم يألفوها، مع أنهم يتطلعون لأن يحققوا الليبرالية التامة في أنفسهم، وإن كنا لا نستطيع أن نغفل عوامل الانبهار الثقافي والاجتماعي التي تقود إلى هذا الخيار الفكري. والسؤال كيف تستطيع نظرية اجتماعية فلسفية قادمة من خلفية حضارية معينة، أن تكيف نفسها مع الحياة في بيئة حضارية أخرى تختلف تماما عن البيئة التي قدمت منها، وما هي العوامل التي تسهم في تسهيل هذا التكيف؟ ولكن تحديد الموضوع بهذه الصورة يجعل الحصول على المعلومات أمرًا عسيرًا، إذ أنه لم يتوفر باحث على دراسة الموضوع بهذا التخصص الدقيق. ولهذا سوف نتناول الموضوع من ناحية نظرية عامة يمكن أن تنطبق على القادم الجديد - وهو الليبرالية - ويمكن العثور على أشخاص متناثرين داخل المجتمع العربي لنسقط عليهم فكرة التمثل. ولكن لا بد من توفر عناصر أساسية لكي يكون الإنسان ليبراليا وهي: رغبة الشخص في اتخاذ الليبرالية ثقافة له، وسعيه عمليًا في إحداث التحول الشخصي اللازم، لكي يقتنع بأنه صار فردا من أفراد مجتمع الليبرالية، محاولًا الاندماج معها ويتبنى قيمها وخصائصها، ويخضع لمعايير الفكر الليبرالي إخضاعًا يمضي إلى غايته النهائية بالقبول به من المجتمع الليبرالي. فالأفراد الذين يستطيعون أن يمضوا فيها إلى نهاية الشوط قليلون وربما نادرون. فبعض الراغبين في تمثل الليبرالية يكتفون بدرجة محدودة، إما بسبب صعوبة التمثل نفسها، أو بسبب رغبتهم الخاصة في الإبقاء على بعض خصائصهم الثقافية، أو بسبب تفضيلهم للمضي فيها إلى الحد الذي يخدم مصالحهم الشخصية والعملية. ولكن لا بد من الاعتراف بأن قدرًا من التمثل يحدث لدى البعض ويبقى التفاوت بين الأفراد في درجة التمثل لليبرالية. فبعض المتمثلين لليبرالية قد يكون تمثلهم لأسباب عملية وأخرى موضوعية أو ثقافية أو سلوكية، أو فطرية، ولكن هذا القدر اليسير من التمثل لا يكفي لوصف صاحبه بـ«الليبرالي على النمط الغربي». إذًا كيف يجوز لمن يتسمون بـ«الليبراليين» أن يوهموا المجتمع بأن هذا هو المقصود بالليبرالية. وكيف يختل تصور قضية غاية في البساطة والوضوح، وهي مفهوم الليبرالية تقوم مقامها ليبرالية متوهمة أو ظنية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد