: آخر تحديث

في محبة خالد الفيصل.. الأمير الذي أحب وطنه حتى صار (الوطن) يشبهه

1
1
1

علي مكي

في الحديث عن خالد الفيصل، يصبح الوصف عاجزًا، والكلمات نفسها ترتبك قليلًا كأنها تقف أمام جبل من الحكمة والعطاء. ليس لأنه أمير فحسب، ولا لأنه شاعر وفنان، بل لأنه حالة نادرة في التاريخ السعودي الحديث، جمعت بين صرامة الإدارة ورقّة القصيدة، بين العقل الذي يبني، والقلب الذي يحبّ. منذ أن تولّى إمارة عسير شابًا طموحًا، أدرك أن العمل العام لا يقاس بعدد القرارات، بل بما تزرعه في الإنسان من ثقة ورؤية وجمال. كانت عسير آنذاك، وما تزال، منطقة تعانق السحاب، لكنها بحاجة إلى من يعيد ترتيب ملامحها لتطلّ على العالم بوجه جديد. فكان خالد الفيصل أميرًا مختلفًا، يسير في القرى بنفسه، يفتح المدارس، يشجّع الشعراء، ويرى في كلّ حجر هناك بذرة قصة جميلة تنتظر أن تروى. في عسير، لم يترك بصمته كإداريّ فحسب، بل كفيلسوف يؤمن أن الثقافة هي الطريق الأجمل للتنمية. فأسّس «قرية المفتاحة» لتكون فضاء يجتمع فيه الفنانون والشعراء والنحاتون، وأطلق مهرجانات ومواسم ثقافية سبقت عصرها، حين كانت الثقافة لا تزال ترفاً في عيون بعضهم. كان يوقن أنّ الإنسان لا يُبنى بالأوامر بل بالإلهام، وأنّ الكلمة تُصلح ما لا تصلحه القرارات أحيانًا. وحين انتقل إلى مكة المكرّمة، عاد إلى مركز الروح، ليقود منطقة هي قلب الوطن ومهوى الأفئدة. لم يكتف بالإدارة، بل صاغ رؤية شاملة حملت اسمه وصوته وعقله. رأى في مكة رسالة إلى العالم، وفي أهلها امتدادًا للرسالة، فكانت مشاريعه تنمو بالإنسان قبل الحجر، واهتمامه بالنسق الحضاري لا يقل عن حرصه على البنية التحتية. من مكة إلى جدة والطائف، ترك بصمة لا تُمحى، جمعت بين النظام والذوق، وبين الحزم والرحمة. في كل زاوية من جهوده الإدارية ظل الشعرُ حاضراً، كأنه يوقّع باسم الجمال على قراراته. لم يكن خالد الفيصل سياسيًا بالمعنى التقليدي، بل مفكرًا يمارس السياسة بروح المثقف. كان حديثه دائمًا مزيجًا من منطق الإدارة وحكمة الشعر، يزرع في مستمعيه إحساسًا أن الوطن فكرة أكبر من الوظيفة والموقع، وأن خدمة الإنسان هي لبّ القيادة لا شعارها. أما في الشعر، فهو أحد الذين صاغوا الوجدان السعودي بصوت متفرّد. فمنذ مجموعته الأولى وهو يكتب شعرًا يشبهه: بسيط العبارة، عميق المعنى، صادق الإحساس. لا يتصنّع المفردة، ولا يغريه الغموض، بل يجعل الشعر مرآة للصدق. كتب للوطن فكان شعره نشيد انتماء، وكتب للحبّ فصار كلامه غناء في القلوب، وكتب للإنسان فبدت قصيدته صلاة للحياة. ولم يكن الفن التشكيلي بعيدًا عن هذا النبض. فمنذ بداياته مارس الرسم كوسيلة أخرى للحوار مع الجمال. ألوانه هادئة كجسده، صافية كروحه، عميقة كالجبال التي أحبّها في عسير. لوحاته ليست استعراضًا للمهارة بل تأمّل في التوازن بين الضوء والظلّ، كما لو أنه يبحث في كلّ لوحة عن معنى العدالة والجمال في آنٍ معًا. بين الريشة والقلم، يلتقي في خالد الفيصل الحسّ المرهف بعين الرؤية، حتى إنك لتشعر أن كلّ قصيدة له يمكن أن تُرسم، وكلّ لوحة له يمكن أن تُتلى. ومع كلّ هذا البهاء الفني، يبقى خالد الفيصل رجل الدولة الذي لا يساوم على المبادئ، ولا يتهاون في قيمة العمل. كان يردّد دائمًا أن «الإنسان السعودي هو الاستثمار الحقيقي للوطن»، لذلك جعل التعليم والثقافة والهوية الوطنية في صميم مشاريعه. في خطبه ولقاءاته لا يتحدث من برج عال، بل من قلب قريب يوجّه بحكمة الأب وصدق المؤمن بأنّ الوطن لا يقوم إلا بالعزيمة والانتماء. في حياته تتقاطع التجارب كما تتعانق الفصول. في طفولته مع الملك المؤسس تعلّم معنى القيادة، وفي شبابه اكتسب من بيئته البدوية صفاء القلب وصلابة الموقف، وفي نضجه جعل من الشعر نافذة للناس على فكره وروحه. ومن كل مرحلة خرج أكثر نضجًا، وأكثر إيمانًا بأنّ السعودية تستحق أن تكون كما هي اليوم: بلدًا ينهض بالعقل والجمال معًا. لهذا نحبه. لأنّه ليس رمزًا سياسيًا فقط، بل رمزًا إنسانيًا يذكّرنا بما يمكن أن يكون عليه الإنسان حين يجمع بين السلطة والذوق، بين القوة والرحمة، بين الفكرة والقصيدة. نحبه لأنّ وجوده يذكّرنا بزمن كانت فيه الكلمات صادقة، والمناصب تقاس بما تضيفه للإنسان، لا بما تضيفه للذات. خالد الفيصل اليوم ليس مجرّد أمير أو شاعر أو فنان، بل تجربة وطن مكتمل في رجل واحد. تاريخه لا يختصر في المراحل التي تقلّدها، بل في الروح التي ظلّ يزرعها أينما ذهب: روح الجمال والالتزام، روح الإيمان بأن الوطن رسالة، وأن الفنّ والخلق جناحان لا يطير أحدهما دون الآخر. في محبّته شيء يشبه المحبة الأولى للوطن، لأنها محبة تبنى على الوعي، وتتزيّن بالعرفان. وحين نراه في حديث مع ابنه «بندر»، ندرك أن الحكمة لا تُورّث فقط بالدم، بل تُورّث بالمثال. ذلك هو خالد الفيصل: الأمير الذي أحبّ وطنه حتى صار الوطن يشبهه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد