: آخر تحديث

رحلت الحافلة... فماذا ستفعل؟

2
2
2

روى شاب مصري موقفاً شهده يوم سافر من مكة المكرمة إلى الرياض في 2023، خلاصته أنه ذهب للصلاة عندما توقفت الحافلة عند محطة بنزين، فلما عاد اكتشف أنها رحلت، فتحير في أمره؛ لأن حقيبته وأوراقه في الحافلة، وهو لا يعرف الطريق ولا كيف يتصرف، فلقيه سائق شاحنة، فسأله عمّا به، وأخبره أن يهاتف أمن الطرق. وخلال دقائق وصلت سيارة شرطة أخذته إلى الحافلة التي أوقفتها الشرطة عند نقطة تفتيش. يقول الرجل في منشور على «فيسبوك» إنه مذهول؛ لأن الناس والشرطة كانوا راغبين في مساعدته بكل مودة، ومن دون أن يعرفوه أو يوصي به أحد.

لو سألت أي شخص عن رأيه في هذا الموقف، لامتدح جميع الأشخاص الذين شاركوا فيه، وامتدح المجتمع الذي يعزز أخلاقيات الدعم والتكافل هذه. نعلم أن الناس يميلون بقوة إلى التعاضد حيثما أمكنهم، ويعدّون هذا من الفضائل والمكارم. وهذا واضح أيضاً في عشرات التعليقات على المنشور، التي أكد أصحابها أنهم يعرفون مواقف مماثلة.

هذا لا ينفي طبعاً أن بعض الناس الذين يحبون سلوكاً كهذا، لن يفعلوه لو كانوا في الموقف نفسه، أو لعلهم سيطلبون مقابلاً مالياً للمساعدة. وأذكر قصة سمعتها من صاحبها، خلاصتها أنه يملك سيارة كبيرة يستعملها لسحب السيارات المتعطلة. وقد اعتاد أن يذهب عصر الخميس والجمعة (يوم كان الخميس عطلة) إلى منطقة صحراوية يمارس فيها الشبان هواية السباق على الرمال، التي يسميها أهل بلدنا «التطعيس». يقول الرجل إن عدد السيارات التي تنقلب أو تحتاج إلى المساعدة لا يقل عن 7 في كل يوم، وإنه يحدد أجرته عن المساعدة تبعاً لماركة السيارة وقيمتها. فالسيارة الغالية يفرض عليها ألفين والرخيصة خمسمائة... وهكذا. وقال إنه يجني معظم دخله من هذا العمل. وفي وسط الكلام، قال إنه كثيراً ما ترك أشخاصاً مع سياراتهم ولم يساعدهم؛ لأنهم لم يدفعوا المبلغ المطلوب. سألته: ألم تشعر بتأنيب الضمير حين تترك شاباً وراءك وسط الصحراء، مع سيارة محطمة؟ فأجابني بأنه لم يندم مطلقاً؛ لأنه في الأساس ذاهب إلى العمل وكسب المال وليس للمساعدة.

أفترض أن بعض القراء سيتفهم هذا العذر، وسيرفضه آخرون، نظراً إلى الوضع الخاص لطرفي العلاقة؛ السائق وطالب العون. سيقول أولئك إن الذين يتسابقون يلهون ويستمتعون بالمخاطرة، فلماذا نفترض أنهم يستحقون العون، لا سيما من شخص يعيش على هذا النوع من العمل، هذا أشبه بصياد سمك ندعوه إلى التبرع بما أخرجه لمن يحتاج الأكل، فإذا فعل، فمن سيطعم أطفاله؟

أما الذين يرفضون موقفه، فسوف ينظرون إلى عواقب تركه أولئك الشبان بمفردهم في الصحراء، حيث يواجهون مخاطر؛ غير مؤكدة، لكنها واردة. وهم يفترضون أن على الإنسان أن يقدم تنازلات أحياناً، حتى لو كانت على حساب حاجاته وما هو ضروري له.

أميل إلى رؤية المفكر المعاصر إيزايا برلين، الذي رأى أن الفعل الأخلاقي في موقف كهذا ليس واحداً ولا ثابتاً؛ ذلك أن العقلاء يبنون مواقفهم على مزيج من القيم، مادية ومعنوية، تتغير مواقعها وتأثير كل منها وفق تفصيلات المسألة المطروحة فعلاً. في المثال الذي أمامنا، يتأثر الموقف بالوقت (ليلاً أو نهاراً)، ووجود أشخاص آخرين، ومدى حاجة الطرف الأول إلى المال والثاني للعون، وتوفر البدائل، ونوعية المخاطبات التي جرت بين الاثنين، بل حتى طبيعة الأرض والطقس والبعد عن المدينة... تدخل هذه العوامل كلها في تكوين الموقف الأخلاقي الذي يتخذه العقلاء عندما يواجهون حالة كالتي ذكرناها.

ليس من الأخلاقي أن ترهن علاقتك بالناس بمقدار ما يدفعون لك... فلعلهم لا يذكرونك يوم يستغنون عنك، فهل تريد حياة كهذه؟ كما لا يمكن - في واقع الحياة - أن تتحول الحياة كلها إلى تطوع وتطوع مقابل، فهذا يخالف طبيعة الإنسان وفطرته.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد