الصورُ التي بثّتها قناة «العربية» من غزةَ هذا الأسبوع بعد أن وضعتِ الحرب أوزارَها تختصر المشهدَ كلَّه... مدينةٌ مدمَّرة، معظم أبنيتِها ومؤسساتها سُوّي بالأرض... دمارٌ في كلّ مكان أينما اتَّجهت... غدت هذه المدينة التي تعدّ من أكثر مدن العالم اكتظاظاً كأنَّها مدينة أشباح... عادَ إليها من نجوا من القتل الوحشي ليجدوا بيوتَهم وقد أضحت ركاماً وخراباً. لا ترى إلا وجوهاً واجمة يلفّها الذهول والاندهاش والشرود. إنَّها صورٌ مروّعةٌ ومشاهدُ كأنَّها من أفلام الخيال العلمي.
وفي ظلّ هذه المشاهد المأساوية لم يَعدِ السُّؤال عن البنود العشرين التي تضمنتها خطة ترمب، بل غدا السؤال الكبير: من سيبني غزة ويعمّرها، بل وأين ستُلقَى آلاف الأطنان من الخرسانة والركام والخراب، وغزة كلها كان يشتكي أهلها من ضيق مساحتها؟
من السَّهل إطلاقُ الوعود، وفتحُ دفاتر المانحين، وعقدُ المؤتمرات تحت عنوان «إعادة الإعمار» لكن ما لم تُمهد أرضيَّة على أساس سياسي متين والتزام مطلق، فستظلُّ كلُّ المليارات كمن يسكب الماءَ على الرمال، لأنَّ إعمارَ غزة يحتاج إلى رعاية سياسية أولاً تعالج جذر الأزمة قبل الحل المالي، وتعالج الاحتلال والانقسام وغياب مفهوم الدولة.
بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، هرع كثير من رجال الأعمال والشركات إلى غزة، على أمل أن يكون الوضع مناسباً لإقامة مشاريعَ وفنادقَ ومناطقَ صناعية. كان الحلمُ أن تكون مدينةً تُبنى لتكون نواةً لدولة فلسطينية واعدة، لكن هذا الحلم سرعان ما تبخَّر حين تحوَّل الصراعُ من مواجهة الاحتلال إلى التَّنافس على السلطة.
كان همُّ الفصائل المتعددة في القطاع هو الحكم، وكان هذا هاجسَها الوحيد، شُغلت بالسيطرة على غزة، بدل أن تعمل على توحيد الصَّف الفلسطيني. وهكذا انهار المشروع في مهده، وبقيت المدينةُ عالقةً بين الاحتلال والانقسام.
اليوم، وبعد حرب دامت سنتين أتت على كل شيء، يعاد الحديث عن الإعمار وكأنَّ الأمرَ بهذه السهولة. وماذا لو انتكس الأمرُ من جديد وبدأ التدمير؟
لقد أشارت إلى هذا الأمر بوضوح صحيفة «نيويورك تايمز» على لسان أحد كتابها، وهو هنري لوينستاين، قائلة «إعادة إعمار غزة ستكلّف عشرات المليارات، لكن من سيستثمر في مدينةٍ لا ضمانَ لعدم اندلاع الحربِ فيها مجدداً؟»، وهو سؤال مشروعٌ لأنَّ أي إعمار بلا ضمان سياسي، هو مشروع قابل للانفجار في أي لحظة، وبوادره متعددة ومنها تصريحات بعض الفصائلِ عن الانتصار، عقب وقف الحرب وبداية حرب الثارات والشوارع في المدينة المتهالكة.
إنَّ إعادة إعمار غزة ليست مهمة هندسية، بل مهمة سياسية بامتياز. ولا يمكن لأي دولة عربية كانت أم غربية، أن تقنعَ العالمَ بجدوى بناء مدينة مهددة بالحرب من جديد، ما لم يترافق ذلك مع حلّ سياسي واضح المعالم بين الفلسطينيين، هذا إذا أرادوا نجاح المساعي العربية والدولية نحو الدفع إلى حلّ إقامة الدولة الفلسطينية المنشودة الذي أجمعت عليه أكثر من 160 دولة، بعدّه السبيل الوحيد لتحقيق سلام حقيقي، يضمن أمن الفلسطينيين والإسرائيليين معاً، ويضع نهايةً لدوامة الإعمار والدمار التي تتكرَّر منذ عقود.
غزة اليوم لا تحتاج فقط إلى أموال المانحين، بل إلى رؤية تبني الإنسان قبل البنيان، وتعيد للسياسة معناها، وللدولة مكانَها، فالاستقرار هو الشرط الأول للإعمار، ومن دون حل سياسي عادل، ستُبنى غزة على الورق... وتُهدم من جديد على الأرض.