: آخر تحديث

الأنماط النفسية الخفية

3
3
3

تبرز "الأنماط النفسية الخفية" كأحد أقوى العوامل المؤثرة في حياتنا، حتى دون أن ندري. فكثيرًا ما نجد أنفسنا نتكرر في سلوك معين مثل تجنب المواجهات، أو اختيار شريك يشبه شخصًا سبّب لنا الألم سابقًا، أو حتى الشعور الدائم بعدم الكفاءة، دون أن نفهم سبب ذلك. هذه الأنماط، التي تتشكل في الطفولة أو عبر تجارب حياتية مؤثرة، تُصبح "برمجة خفية" تتحكم في قراراتنا. لكن المعرفة بها هي أول خطوة لتحويلها من سلسلة تقييدية إلى مصدر قوة. فكيف نكشفها، ونتعامل معها، ونستفيد من جوانبها الإيجابية، ونتجاوز سلبياتها؟.

الأنماط النفسية الخفية غالبًا ما تكون غير مرئية لأنها تُفعّل آليات دفاعية تحمينا من الألم، لكنها تُقيّد حريتنا في المدى الطويل. للكشف عنها، تبدأ الرحلة بـالوعي الذاتي. فمثلاً، إذا لاحظت أنك دائمًا تشعر بالذنب عند رفض طلب ما، أو أنك تتسرع في اتخاذ قرارات متهورة تحت الضغط، فهذه إشاراتٌ تشير إلى وجود أنماط كامنة. يُساعد في هذه المرحلة التدوين اليومي؛ فكتابة المشاعر والسلوكيات المتكررة تكشف الروابط بين المواقف والأحاسيس، كأن تكتب: "كلما شعرت بالضغط في العمل، ألجأ إلى إهمال عائلتي، ثم أشعر بالندم لاحقًا". كما أن العلاج النفسي، خاصة العلاج السلوكي المعرفي CBT، يُعدّ أداة فعّالة لفك شفرات هذه الأنماط، حيث يساعدك المُعالج على ربط السلوكيات الحالية بتجارب الماضي.

بمجرد الكشف عن النمط، تأتي مرحلة التغيير، والتي تتطلب إرادة مستنيرة وأدوات عملية. أولًا، جرّب تقنية "التوقّف والتنفّس" عند ظهور السلوك المتكرر: فعندما تشعر أنك تهرب من مواجهة زميلك في العمل، امنح نفسك 10 ثوانٍ لتنفّس بعمق واسأل: "ما الذي أخافه في هذه المواقف؟ هل هذا الخوف منطقي؟". هذه اللحظة القصيرة تُفسح المجال لإعادة التفكير المعرفي، أي استبدال الأفكار السلبية بآليات واقعية. على سبيل المثال، بدلًا من قول "سأفشل دائمًا"، قل: "هذا تحدٍّ جديد، وسأتعلم منه حتى لو ارتكبت أخطاء". كما تُعتبر الممارسات الذهنية Mindfulness سلاحًا سريًّا؛ فعندما تركز على الحاضر دون حكم على الذات، تضع مسافة بين "أنا" و"النمط"، ما يمنحك القدرة على اختيار رد الفعل.

ليست كل الأنماط سلبية؛ فهناك أنماط خفية تُعدّ مصادر قوة، مثل الميل إلى الاستماع العميق، أو القدرة على رؤية الحلول في الأزمات. للاستفادة منها، ابدأ بـتوثيق النجاحات الصغيرة. إذا لاحظت أنك تُقدّر دائمًا مساعدة الآخرين في الأوقات الصعبة، اكتب: "هذا النمط يُظهر تعاطفي، سأستخدمه لبناء علاقات أقوى في العمل". يمكنك أيضًا استثمار هذه الأنماط في أهدافك؛ فالميل إلى التخطيط المسبق، مثلاً، قد يساعدك في بناء مشروع ناجح إذا قمت بتنميته بوعي. هنا، يتحول "النمط الخفي" من سلوك تلقائي إلى استراتيجية مقصودة.

لكن ماذا لو كانت الأنماط ضارة، كالتسرع في اتخاذ القرارات أو الإفراط في التفكير السلبي؟ هنا، تأتي استراتيجية الاستبدال. بدلًا من محاولة "إيقاف" السلوك السلبي (الذي غالبًا ما يزيد من تأثيره)، اختر سلوكًا بديلًا ملموسًا. إذا كنت تهرب من المواجهات، حدد خطوة بسيطة مثل: "سأقول رأيي في الاجتماع القادم باستخدام جملة مفتوحة مثل: أعتقد أننا بحاجة لمناقشة هذا من زاوية أخرى". كما أن البحث عن الدعم الخارجي كالمُعَالِج أو الصديق الموثوق يُقلل من عزلة التغيير.

الأنماط النفسية الخفية ليست حُكمًا محتومًا على مصيرنا، بل فرصة لفهم أنفسنا بشكل أعمق. إنها تذكير أننا لسنا سجناء لـ"الماضي"، بل نحن مهندسو الحاضر. فبمجرد أن نكشف هذه الأنماط، نتحوّل من الـ"تكرار الآلي" إلى الـ"اختيار الواعي"، ونحوّل ما كان قيدًا إلى جناحٍ يحملنا نحو حياة أكثر وعيًا وإبداعًا. كما يؤكد عالم النفس د. بريان ويس في كتابه "العديد من الأرواح، العديد من الكائنات": "الأنماط النفسية ليست حائطًا، بل هي بابٌ؛ افتحه بوعي، وستجد أن كل ما خشيتَه كـ(مصير) لم يكن سوى خطوة تحتاج إلى إعادة توجيه".. ففي النهاية، ليست الحياة عن تجنّب الأخطاء، بل عن تعلّم الرقص مع إيقاعات العقل دون أن تفقد خطواتك.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد