لا يدور الجدل عند منح جوائز نوبل في هذا الشهر من كل سنة، إلا حول جائزتي السلام والأدب، ولم يحدث من قبل أن فاز بها أحد في الطب مثلاً ثم قيل إنه لا يستحقها، ولا في الفيزياء، ولا في الكيمياء، ولا في الاقتصاد.
وقد جرى الجدل هذه السنة حول الجائزتين أيضاً من دون سواهما، فانقسم الجمهور حول لاسلو كراسناهوركاي، أديب المجر الذي فاز في الأدب، وانقسم أيضاً حول الفنزويلية ماريا كورينا ماتشادو التي فازت بها في السلام. أما الجديد، فهو أن الجمهور نفسه انقسم حول مرشح لها لم يحصل عليها في السلام، وكان هذا المرشح هو الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي لم يفوّت مناسبة إلا وقال إنها له وإنه لها!
وعلى كثرة الذين ذهبت «نوبل للسلام» إليهم قفزاً فوق القواعد والتقاليد المستقرة، فإن اثنين منهم كان فوز أحدهما في العقد الأول من هذا القرن، وكان فوز الآخر في العقد الذي تلاه. والغريب أن كليهما حصل عليها في السنة الثانية له في السلطة، وكان هذا من دواعي إثارة الجدل حولهما معاً أكثر وأكثر.
كان أولهما الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي دخل البيت الأبيض في 2008، وما كاد يستقر في المكتب البيضاوي الشهير، حتى كانت «نوبل للسلام» قد جاءته في 2009. كان السؤال الأهم وقتها عما إذا كان قد أنجز ما يستحق به الجائزة؟ فلقد كان الأمد لا يزال ممتداً أمامه، وكان على موعد مع البقاء في السلطة إلى 2016، وكان الأوفق أن تأتيه «نوبل» في تلك السنة الأخيرة له في الحكم، تتويجاً للمسيرة، أو حتى بعدها في السنة التالية.
بل إن هناك مَنْ رأى أن ما قام به أوباما في تأجيج نار ما سُمي «الربيع العربي» في منطقتنا العربية، كان أدعى إلى سحب «نوبل» منه، وإلا، فهل يختلف اثنان على أن الكثير مما تعانيه المنطقة إلى اليوم، إنما يعود في أساسه إلى ذلك «الربيع»، وبالتحديد إلى حماسة أوباما له والنفخ في ناره طول الوقت؟ والسؤال بصيغة أخرى هو كالتالي: هل كانت لجنة «نوبل للسلام» ستمنحه جائزتها، لو أنها انتظرت حتى سنواته الأخيرة في الكرسي؟ إنها سنوات تجلّت فيها عواقب وقوفه مع «الربيع» على أسوأ ما يكون، وكان ضحايا «الربيع» إياه ولا يزالون يستعصون على العد والحصر والإحصاء.
وأما آبي أحمد، رئيس وزراء أثيوبيا، فلقد تولى رئاسة الحكومة في 2018، وما كاد يستقر في مقعده مثل أوباما، حتى كانت «نوبل» قد ذهبت إليه في 2019.
وأما عواقب سياساته في شرق القارة السمراء فليست سراً على أحد، ويكفي أن نسترجع صوراً للمناطق الغارقة في السودان وفي مصر خلال أيام قليلة ماضية، وكيف أن غرقها كان بسبب سد النهضة الذي بناه على النيل الأزرق، وبغير أن ينصت كما يجب إلى الدعوات التي كانت تأتيه ولا تزال من القاهرة والخرطوم معاً.
كانت الحكومة في مصر تقول منذ البداية إن إقامة سد النهضة مشروطة بألا يتسبب في ضرر لها، ولا في الإنقاص من حصتها في ماء النهر، وكذلك كانت الحكومة في السودان تقول، وكان الحل أن تكون الدولتان شريكتين في ملء البحيرة التي تقع أمام السد وفي تشغيله، وكان هذا مطلباً تؤيده مبادئ القانون الدولي الحاكمة وتدعو إليه.
لقد عاش آبي أحمد يتجاهل ذلك كله، أو يتعامى عنه، وعاش يتناسى أن الماء القادم من النيل الأزرق يعني الحياة نفسها للناس في دولتي المصب، وأن هذا يجعل من المستحيل أن تمشي الأمور كما يراها هو منذ بدأ العمل في السد أو كما يتخيلها.
وحين ثار الجدل وتجدد هذا الشهر حول مدى أحقية ترمب في «نوبل للسلام»، استحضر المتجادلون ما كان من أوباما في أيام «الربيع» الذي لم يكن ربيعاً بأي معنى، واستحضروا كذلك أو بالأدق رأوا ماذا أصاب الناس في مصر والسودان من جراء ما قام ويقوم به رئيس الوزراء الأثيوبي.
ويبدو أن هذا السبب على وجه التحديد، هو ما دعا لجنة «نوبل للسلام» من مقرها في النرويج إلى التأني في منح الجائزة للرئيس الأميركي. فمن الجائز جداً أن تكون اللجنة قد رأت ماذا فعل أوباما بعد حصوله على «نوبل»، وماذا فعل ويفعل آبي أحمد بعد حصوله عليها؛ فالأنسب على أساس من هاتين التجربتين أن يظل منح «نوبل للسلام» بالذات، مكافأة على حصيلة من السعي للسلام تمت بالفعل على الأرض، لا مكافأة على شيء لم يتم بعد، وإلا، فإن عكس معنى السلام هو الذي رأيناه في حالة الرئيس الأميركي الأسبق، ثم في حالة رئيس وزراء أثيوبيا على السواء.
هذا تفسير أجده مناسباً لعدم ذهاب «نوبل للسلام» هذه السنة إلى ترمب، ورغم أن لجنة الجائزة في أوسلو لم تصرح بما يدل على وجود مثل هذا التفسير لديها، فإنه التفسير الأقرب للعقل والمنطق، وهو الذي علينا أن نظل ننشره ونشير إليه، لعل الجائزة لا تذهب إلى غير مستحق لها، أو لعل مستحقها يعمل بها أولاً ثم يحصل عليها ثانياً، لا أن يحوزها ثم يخذل جمهورها بعدها!