الشَّيخ محمد الغزالي في مقدمة الطبعة الأولى لكتابه «من هنا نعلم» زوّر ما جاء في مقال الشيخ أحمد محمد شاكر «الإيمان قيّد الفتك» بعد مضي عام و10 أشهر على نشره، فصوّره على غير ما هو عليه. وقد أشرت في المقال السابق إلى جوانب من هذا التزوير.
الشيخ أحمد محمد شاكر استند في إدانته الدينية للذين اغتالوا رئيس الوزراء فهمي النقراشي (ولم يذكر في مقاله اسم جماعة «الإخوان المسلمين» ولا اسم النظام الخاص) إلى بضعة أحاديث، أبرزها حديث الزبير بن العوام.
قال الشيخ أحمد شاكر: «وهناك حديث آخر نص في القتل السياسي، لا يحتمل تأويلاً، فقد كان بين الزبير بن العوام وبين علي بن أبي طالب ما كان من الخصومة السياسية، التي انتهت بوقعة الجمل، فجاء رجل إلى الزبير بن العوام، فقال: أقتل لك علياً؟ قال: لا، وكيف تقتله ومعه الجنود؟ قال: أُلحق به فأفتك به. قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الإيمان قيّد الفتك، لا يفتك مؤمن. حديث الزبير بن العوام رقم 1429 من مسند الإمام أحمد بن حنبل بتحقيقنا».
شرح الشيخ أحمد شاكر معنى الحديث، فقال: «أي أن الإيمان يقيّد المؤمن عن أن يتردى في هوّة الردة، فإن فعل لم يكن مؤمناً».
الشيخ الغزالي عوض أن يناقش مستند الشيخ أحمد شاكر الحديثي (نسبة إلى علم الحديث) مناقشة دينية، زوّر عليه قوله.
إن الشيخ الغزالي افترى على الشيخ أحمد شاكر، لتعصبه لجماعة «الإخوان المسلمين» وتعصبه على من ينتقدها حتى لو كان شيخاً في الدين. ولكونه في ذلك التاريخ، نوفمبر (تشرين الثاني) 1950، ما زال كاتب الجماعة الأغر.
لكن هذا التعصب المقيت لجماعته، جماعة «الإخوان المسلمين»، ذوى كثيراً بسبب فصله منها، فراح ابتداء من عام 1954 يذم العقل الديني السائد بين رعايا الجماعة، ويهجو مرشدها الجديد حسن الهضيبي هجاءً مسفّاً.
ما قاله عن العقلية الدينية السائدة بين رعايا «الإخوان المسلمين»، بوسعي القول إن هذه العقلية التي ذمها تتقاسمها نخبة الجماعة مع رعيتها منذ تأسيس الجماعة إلى يومنا هذا. فمن خصوصيات جماعة «الإخوان المسلمين» الفريدة، أنه ليس ثمة فارق نوعي بين تفكير نخبها وبين تفكير عوامها.
وبوسعي القول أيضاً إن من معايب تلك العقلية عند الشيخ الغزالي التي قال بها بعد قرار فصله أنه كان يصدر عنها قبل قرار فصله ويصدر عنها في عهد مرشد الجماعة الأول، حسن البنا، وإن كان يدعي أن إمامه الأول والأخير حسن البنا سمح له بالرأي المستقل!
أو أنه انتزعه منه لنفسه، لأن ذلك مما جبل عليه، كما نص على ذلك تعليله. قال بهذا الادعاء أول مرة عام 1954 في كتابه «في موكب الدعوة». قال في هذا الكتاب: «كنت آخذ منه وأدع، وأتبعه وأجادله، ويرى مني الرضا والنقد»!
إمامه الأول والأخير حسن البنا لا يقبل من أفراد جماعته سوى السمع والطاعة المطلقة، وقد ربّاهم على هذا الشرط الانقيادي.
وهذا ما نستخلصه من شهادة كبير من كبراء الجماعة، الذي انفصل عنها في أول الستينات الميلادية. هذا الذي كان من كبرائها هو عبد العزيز كامل.
يقول هذا الرجل في كتابه «في نهر الحياة»: «كان من رأي الأستاذ المرشد أن الشورى غير ملزمة للإمام، كتب هذا صراحة ودافع عنه، ولم يتحول عن هذا الرأي، وسرى هذا منه إلى من حوله. وفي أواخر الثلاثينات – وهي السنوات الأولى لحياتي في (الإخوان) – كنت أسمع كثيراً كلمة (بالأمر)، وهي كلمة عسكرية، تعني أن تفعل هذا كما هو مأمور به من مستوى أعلى».
ويضيف قائلاً: «وعندما كوّن الأستاذ (النظام)، وهو الذي عرف فيما بعد باسم (النظام السري)، كان تكوينه أيضاً على أساس السمع والطاعة والكتمان».
ولقد طوّح عبد العزيز كامل بتفسيره بعيداً حينما اعتقد أن قول حسن البنا إن الشورى غير ملزمة له بوصفه إماماً لجماعته، هو الذي قاده إلى إنشاء «النظام الخاص» أو «التنظيم السري».
البنا حين قال إن الشورى غير ملزمة له داخل جماعته، وإن من حقه على جماعته السمع والطاعة المطلقة له، كان النظام السياسي في مصر قائماً على توزيع السلطة بين الملك ورئيس الوزراء والبرلمان!
هذه الامتيازات التي اختص نفسه بها لا يمنحها ولا يمنح شيئاً منها لسلطة الدولة الذي هو مواطن من مواطنيها، فهذه الامتيازات في معتقده وفي المعتقد الذي ساق جماعته للتسليم به هي حق يتمتع به وحده، لاجتماع صفتي «الإمامة» و«الخلافة» فيه، وانتفائها من دولتهم، الدولة المصرية، لأنها لم تكن دولة «إمامة» و«خلافة».
ولهذا السبب كانوا هم وإمامهم وخليفتهم حسن البنا لا يدينون لهذه الدولة بالمواطنة في بواطنهم، ويعتقدون – دينياً – أنه ليس لها حق الطاعة عليهم.
نعود للشيخ محمد الغزالي وإلى مقالاته التي جمعها في كتاب سماه «موكب الدعوة».
قال في خاتمة هذا الكتاب: «ولقد رأيت أن أهمل بعض المقالات التي رددت بها عن نفسي يوم استصدر قرار بفصلي من هيئة (الإخوان المسلمين). إن ميدان العمل لله ورسوله أرحب من أن يحتك فيه متنافسون، وأسمى من أن يشتبك فيه متشاكون! وقد كنت حريصاً على الصمت الجميل يوم عرفت أني سأعمل للإسلام وحدي. بيد أن أحداً من خلق الله اعترضني ليقول لي: إن تكلمت قتلت (!) فكان ذلك التهديد الحافز على أن أتكلم وأطنب».
وقبل أن يجف حبر هذه الأسطر في ذلك العام، عام 1954، جمع مقالات كان قد نشرها في مجلة «الدعوة». في كتاب سماه «من معالم الحق»، وكان من ضمن مقالات الكتاب، مقال «السمع والطاعة» الذي حقّر فيه إلى أبعد حد من شأن المرشد الجديد، حسن الهضيبي، وسأورد مثالاً واحداً من هجومه المقذع على المرشد الجديد: «ولقد جاء حسن الهضيبي – وهو أحدث الناس عهداً بدعوة (الإخوان المسلمين) – فأراد أن يكون أقدم الناس فيها بإخراج غيره. وجاء قزماً بين عمالقة، فشاء أن يكون عملاقاً بين أقزام».
في الطبعة الثانية من هذا الكتاب، الذي حمل عنواناً أطول هو «من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي»، الذي صدر في عام 1963، زاد في مقاله «السمع والطاعة». ومما زاده في هذا المقال هجومه على «النظام الخاص»، واتهام انضمام الهضيبي وسيد قطب إلى جماعة «الإخوان المسلمين»، بأنه كان بإيعاز من الحركة الماسونية العالمية لغرض تآمري، وأنه بانضمامهما للجماعة اخترقتها الماسونية ونخرتها من الداخل.
في هجومه على «النظام الخاص»، قال عن العاملين فيه: «وقد كان هؤلاء الشبان الأخفياء شرّاً وبيلاً على الجماعة فيما بعد، فقد قتل بعضهم بعضاً، وتحولوا إلى أداة تخريب وإرهاب في يد من لا فقه لهم في الإسلام، ولا تعويل على إدراكهم للصالح العام. وقد قال حسن البنا – قبل أن يموت – إنهم ليسوا إخواناً ولا مسلمين».
الآن ونحن في عام 1963، صار يجرّم «النظام الخاص»، لكنه مع هذا التجريم له في ذلك العام، لم يقلع عن عاداته في التدليس وفي تنميق المغالطات. وهذا بيان بها...
في رده الذي تضمنته مقدمة كتابه «من هنا نعلم» الصادر في طبعته الأولى في شهر نوفمبر، على مقال الشيخ أحمد محمود شاكر «الإيمان قيّد الفتك» المنشور في 2 يناير (كانون الثاني) 1949، لم يقل عن شبان «النظام الخاص» ما قاله عنهم في عام 1963. هل لأنهم في نوفمبر 1950 لم يغدوا بعد «شرّاً وبيلاً على الجماعة» بـ«قتلهم بعضهم بعضاً»؟!
وهل «الصالح العام» ينحصر في ألّا «يقتل النظام الخاص بعضه بعضاً؟!» وهل من «الصالح العام» اقتراف أعمال إرهابية، بمختلف صنوفها، تجاه من هم من غير «الإخوان المسلمين»؟!
«النظام الخاص» هو من الأساس أداة إرهاب بالتفجيرات وإرهاب بالاغتيالات، وقد باشر بتنفيذ أعماله الإرهابية ابتداءً من عام 1945. فـ«النظام الخاص» من الأصل أنشئ لغايات إرهابية. فالإرهاب ليس أمراً طارئاً عليه، أو هو «تحول» إليه بعد عمر مديد.
أما قوله «فقد قتل بعضهم بعضاً»، فلم يحدث شيء من هذا سوى حادثة واحدة داخل «النظام الخاص» لها صلة وثقى بالصراع الذي نشب بين الهضيبي بعد استخلافه وبين قيادة «النظام الخاص». ففي ذروة الصراع بين المرشد الجديد حسن الهضيبي وبين المسؤول الأول في «النظام الخاص» عبد الرحمن السندي، علم الأخير بأن الأول أقام مع نائبه في «النظام الخاص»، المهندس السيد فائز علاقة كسب بها ولاءه له، وأنه سيعينه في مكانه، فأعدّ له مصيراً مأساوياً. ففي اليوم الذي كان مقرراً، وهو يوم 20 فبراير (شباط) 1953، أن يتسلّم الهضيبي كل بيانات «النظام الخاص» السرية في تقرير شامل، تلقى السيد فايز طرداً من الديناميت في شكل هدية بمناسبة المولد النبوي، انفجر فيه وفي شقيقه الصغير. وللحديث بقية.