من الحقائق التي نتجاهلها دوماً؛ أننا نحن لسنا نفس الشخص الذي نتصوره! بل إننا نتغير كلما تقدمنا في العمر، فالشخص الذي كنته في العشرينات من عمرك ليس ذاته في الثلاثينات أو الأربعينات، ولا هو نفسه في الستينات، نحن نكبر، نتعلم، نتأثر بالتجارب، نتغيّر، ويُعاد تشكيلنا باستمرار، حتى يكاد يبدو الماضي غريباً عن حاضرنا.
علم النفس يؤكد أن الهوية ليست ثابتة، بل ديناميكية، منها تلكم الدراسة التي نشرت في مجلة "العلوم النفسية" عام 2014م، وبينت أن أغلب البشر يعتقدون أنهم اليوم أقرب إلى نسختهم النهائية! بينما في الواقع هم يتغيرون مع مرور الزمن، وربما يتغيرون بشكل جوهري.
التغيّر ليس ضعفاً أو تناقضاً، بل جزء من الطبيعة الإنسانية؛ فالدماغ البشري يظل قادراً على التكيّف والتعلّم حتى في سن متأخرة، بفضل ما يعرف بالمرونة العصبية. ذلك أن كل تجربة نخوضها تترك أثراً في شخصياتنا، مثل الوظيفة وظروفها، العلاقات العاطفية وعلاقات الصداقة، الأمراض، الهوايات والمهارات، جميعها ترسي طبقة جديدة فوق ذواتنا السابقة.
أشار عالم النفس "إريك إريكسون" في نظريته لمراحل النمو النفسي، أن كل مرحلة عمرية تحمل أزمة أو تحدياً رئيساً، وإذا تم تجاوزه بوعي، فإنه يقود لنضج أعمق، لذا نحن دوماً في حالة إعادة صياغة مستمرة لهويتنا.
تبقى المرونة هي حجر الأساس لحياة التغيير المتوازن، وهي أن تقبل أن الماضي لا يحددنا، وأن المستقبل يظل مفتوحاً لاحتمالات كثيرة، فهي ليست استسلاماً لكل تغيير، بل قدرة على إعادة ترتيب الأولويات وتبني طرق جديدة للتفكير والعمل، وبالطبع الأشخاص الأكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات يحققون مستويات أعلى من الرضا والسعادة على المدى الطويل.
قد نتساءل إذا كنا نتغير باستمرار، فما الذي يجعلنا "نحن"؟ الجواب يكمن في التزامنا بقيمنا، فالقيم السامية مثل الصدق، الإحسان، المسؤولية، العدالة، تمثل البوصلة التي لا تتبدل مهما تغيّرت الظروف، نعم قد يتغير أسلوبنا في العمل أو نظرتنا للعلاقات أو حتى رؤيتنا للحياة، لكن التزامنا بالقيم السامية يضمن أن تكون تحولاتنا نضوجاً لا انحرافاً، إذ نحن مزيجٌ من ثبات وتغير، ثبات في القيم والمبادئ، وتغير في الأفكار والأساليب، هذه الموازنة هي ما تجعلنا ننمو دون أن نفقد ذواتنا.
حين تنظر في المرآة وتهمس في داخلك أنك لم تعد الشخص الذي كنت عليه قبل عشر سنوات! فهذا ليس مدعاة للخوف أو القلق، بل علامة نضج واتزان، لأنك تتغير وتنمو، وتُعيد تشكيل نفسك بما يتوافق مع خبراتك، وفي الحقيقة أنت اليوم نسخة أكثر اكتمالاً من ذاتك السابقة، وبالطبع أقل من نسختك القادمة! لذا عش حياتك كما أنت اليوم وفقط.